ما سبب الكراهية في العالم؟ وبماذا نفسر العنف حين يصل إلي أقصاه، إلي حدود غير متوقعة، ويتحول إلي ما يسمي بالشر الخالص أو المحض؟
الفيلسوف الفرنسي quot;بول ريكورquot; (1913 - 2005) قدم أول محاولة مبتكرة للإجابة عن هذه الأسئلة بالبحث في جذور مشكلة (الشر) وماهيته. يقول:quot;ان الشر ليس دليلا علي النقص، بل ان الوجود بدونه يصبح ناقصاquot;، وهو يربط بين مفهوم quot;اللاعصمة quot; أو امكانية وقوع الإنسان في الخطأ ومشكلة quot;الشرquot; في العالم. ويتساءل عن: معني أن يكون الانسان خطاء؟.. ويجيب بأن امكانية الشر منقوشة في تكوين الانسان. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الألماني quot;ليبنتزquot; حين قال: ان محدودية الانسان هي فرصة الشر المعنوي.
لكن quot;ريكورquot; يصحح هذه المقولة، لأن هذه quot;المحدوديةquot; غير كافية بحد ذاتها لينبثق منها الشر، وإنما لأن الانسان غير متطابق مع ذاته. ومفهوم اللاتطابق أو اللاتناسب بين الإنسان وذاته هو الذي يجعل من المحدودية الانسانية مرادفا quot;للاعصمةquot;. من هنا فإن مفهوم quot;اللاعصمةquot; يتضمن إمكانية الشر بمعني أكثر ايجابية: فـquot;اللاتناسبquot; عند الانسان هو القدرة علي الخطأ، بمعني انه يجعل الانسان قادرا علي ارتكاب الخطأ. ومن ثم فإن quot;الشر هو (عبور) من اللاعصمة الي الخطأquot; ( الإنسان الخطاء، ص - 216)
أما عن ماهية quot;الشرquot;، فإن ريكور يضعه في بعده العملي. فالشر: هو هذا الذي نصارعه، بمعني آخر، ليس لنا أية علاقة معه سوي علاقة صراع وضدية. الشر هو هذا الموجود الذي ما كان يجب ان يوجد، ولانستطيع تفسير وجوده، quot;الشر يأتي للانسان كما الخارج بالنسبة للحريةquot;. ان مشكلة quot;الشرquot; كما عالجها ريكور في كتابه ( فلسفة الإرادة، الانسان الخطاء، ترجمة: عدنان نجيب الدين، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، الطبعة الأولي 2003)، يجب ان تقرأ في ضوء العلاقة بين الخير (الحب) والشر (الكراهية)، وهي غير منفصلة عن (فلسفة الوجود) وعن (مشكلة الحرية)، وحسب تعبير ريكور فإن مشكلة الشر هي (تحد للفلسفة واللاهوت في آن معا).
ريكور يؤكد، علي العكس من معظم الكتب المقدسة: ان الانسان ليس هو أصل الشر، فالانسان قد صادف quot; الشرquot; وأستأنفه، وهو ما يستبعد بالكامل أصل الشر في الإرادة السيئة التي يتهم بها الإنسان نفسه (ويتعذب) والتي (يوهمه) الجميع (من آدم إلي اليوم) بانه صاحبها. ان الشر - عند ريكور - هو (ما لا يجب ان يكون)، بل (يجب ان يصارع)، لذا فإن السؤال: من أين يأتي الشر؟ يجب أن يقترن بسؤال آخر: ما العمل في مواجهته؟.. هكذا تتوجه أنظارنا إلي الأمام وحلولنا العملية باتجاه المستقبل، وننشغل بفكرة المهمة الواجب انجازها، والتي تستجيب لفكرة الأصل الذي يجب اكتشافه!
كل شر مرتكب من قبل البعض هو شر متلقي بواسطة البعض الآخر. ان (فعل الشر) هو (فعل ايلام للآخر). والعنف لاينفك يعيد صناعة الوحدة بين الشر المعنوي والألم. وعلي ذلك فإن كل فعل، (أخلاقي)، أو (سياسي) quot;يقلل كمية العنفquot; الممارس بواسطة البشر بعضهم ضد بعض، هو في الحقيقة quot;ينقص معدلات الألمquot; و(الشر) في العالم، ومن هنا ابتكرت النظم السياسية المتقدمة (مثل الديمقراطية الليبرالية) والدساتير المحترمة والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. يقول quot; ريكور quot;: quot; فلننقص التألم الذي يسببه الناس بعضهم لبعض وسوف نري ماذا يتبقي من الألم في العالم، الحقيقة لانعرف مادام العنف يخصب الألم. quot; (ص ndash; 242)
واذا كان الشر كما يقول: هو مالا يجب ان يكون، بل يجب ان يصارع، فإن quot;الحبquot; هو: (إعادة صياغة الانسانية) في الانسان وتحديدها من جديد، لا من حيث تمايزها أو تنافرها مع انسانية الآخر بل من خلال (الاندماج معه) لتشكيل وحدة جدلية يكون فيها التناقض شرط وجود هذه الوحدة، وبذلك يصبح الخير والشر واحدا في تشكيل الوجود، فكلاهما ضروري لهذه الكينونة. ونظرا لأن الوجود بدون الشر يصبح ناقصا، تصبح مهمة الإنسان الأولي من الناحية الأخلاقية والسياسية العمل ضد هذا الشر، وتقليصه في أضيق الحدود quot; (ص - 243).
كل quot;عيد حبquot; والقراء والزملاء والأصدقاء في إيلاف الحبيبة بألف خير وسلام...
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات