استخدام الخطاب الديني بكثافة منذ 11 فبراير 2011 في quot;تعبئة الحشودquot; فيما عرف بالمظاهرات المليونية، من أجل الانقضاض على الثورة وانحرافها عن مسارها الصحيح كخطوة أولي، ثم في تهييج انفعالات هذه الحشود صوب صناديق الانتخابات كخطوة ثانية (وأخيرة) هو الأسلوب الذي أتبعه التيار الإسلامي بمختلف تنويعاته واتجاهاته للقضاء علي التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر (بعد 25 يناير) بسلاح الديمقراطية نفسه وعبر quot; صناديق الانتخابات السوداء quot;.
أول من حذر من مخاطر quot; الحشود quot; هو quot; غوستاف لوبون quot; عام 1896، حين قال : quot;من الأهمية بمكان أن نتوصل إلى حل للمشاكل التي تفرضها سيكولوجية الحشود، وإلا فلنسلم لهم أنفسنا في صمتquot;. وبالتالي أصبحت محاولة فهم سيكولوجية هذه الحشود والآليات التي يستخدمها المحركون لها ضرورة قصوي، لأن ما نتابعه اليوم في الشارع المصري ومن خلال وسائل الإعلام ليس تحولا ديمقراطيا ndash; كما قال الرئيس مرسي في حواره الأخير مع عمرو الليثي ndash; وإنما هو عودة ممنهجة لأعتي أساليب الحكم الاستبدادية في التاريخ الحديث.
quot;الحشودquot; هي الوجه المعاكس للحركات السياسية والحزبية التي تؤمن باللعبة الديمقراطية التعددية وتمارسها بالفعل في الدول المتقدمة، وهي تميل إلى التشكل السريع وبطريقة عفوية لا شعورية (غير منطقية)، مثل السحب الداكنة التي تتجمع لتشكل العاصفة أو الإعصار المدمر، كما أن أهدافها انفعالية آنية (لا علاقة لها بالمبادئ): مثل مهاجمة أقسام الشرطة أو تطويق مؤسسات الدولة حيث تكون الغلبة للعواطف الدينية علي الأهداف العقلانية الواضحة، فقد حاصرت هذه الحشود المحكمة الدستورية العليا ومدينة الانتاج الإعلامي، كما أقتحمت مبنى البرلمان ودار القضاء العالي ومنعت النائب العام من ممارسة مهامه، وهي علي استعداد (بإشارة واحدة) لتكرار ذلك مرات ومرات.
من هنا يبدو ان التحدي الحقيقي الذي يواجه مصر الآن quot; مؤسسيا quot; ndash; في المقام الأول - يتعلق برأس الدولة وليس بالمعارضة أو القوي الثورية، والسؤال هو : كيف يمنع الرئيس الإخواني محمد مرسي (جماعته) وفصائل الإسلام السياسي الأخري من استخدام هذه quot; الحشود quot;؟ أو بالأحري كيف يهدر بيده quot; رأس المال السياسي quot; للإسلاميين، وهو الأكثر حسماً في عملية التصويت في الداخل، والأكثر إقناعا للخارج بتأييد الجماهير لسياساته الحالية والمستقبلية؟
ليس صحيحا : أن الآليات التي يستخدمها الرئيس مرسي فضلا عن أعضاء حزب quot; الحرية والعدالة quot; الذراع السياسي للجماعة، هي نفس quot; آليات quot; الحزب الوطني المنحل أو quot; الفلول quot;، إلي درجة أن البعض أطلق علي الرئيس مرسي quot; مبارك أبو لحية quot;، فقد أثبت المصريون ndash; خلال سبعة أشهر هي عمر مرسي في الحكم - أنهم أكثر تقدما من الناحية السياسية والمعرفية من جماعة الإخوان المسلمين نفسها، ناهيك عن هذه الحشود المليونية والكتل القطعية التي لا عقل لها، وتلك quot; معضلة كبري quot; واجهت ndash; وستواجه ndash; هذه الجماعة طالما ظلت في الحكم، ما لم تسعي بكل السبل إلي تجهيل الشعب المصري بالكامل وشل عقله بما في ذلك ذاكرته الجمعية وفي أسرع وقت ممكن!
أهم الاستراتيجيات التي يطبقها الإخوان علي الشعب المصري لتحقيق هذا الغرض العاجل، مستمدة من نظريات quot; نعوم تشومسكي quot; في أساليب النظم الاستبداية الحديثة للتحكم في الشعوب وكسر إرادنها وتجهيلها، مثل : quot; الإلهاء quot; وquot; افتعال المشاكل quot; وquot; التدرج quot; وquot; التأجيل quot; وquot; استثارة العواطف quot; وquot; التجهيل quot; وquot; استحسان القبح quot; وquot; الشعور بالذنب quot; وغيرها من الاستراتيجيات التي من فرط معرفة المصريين بها (وإدمانهم لها) أصبحت غير مؤثرة بالمرة بل صارت مادة للتندر والسخرية المرة والقفشات اللاذعة التي تحاصر الرئيس وجماعته في الشارع والفضائيات والصحف وشبكات التواصل الاجتماعي وغيرها.
المشاكل الحياتية (الاقتصادية والأمنية) التي يعاني منها المصريون أكبر من أن يتحول انتباههم عنها quot; بالإلهاء quot;، وافتعال المشاكل (فرض الطوارئ علي مدن القناة ثم رد الفعل الغاضب من أهالي هذه المدن ثم إيجاد الحل بتخفيف حالة الطوارئ) يقابله المصري بالاستخفاف وتحدي السلطة الحاكمة!، أما استراتيجية quot; التدرج quot; وإطلاق الوعود الاقتصادية والاجتماعية الكاذبة فقد سأم الجميع منها وانطلقت بسببها شرارة الثورة وشعارها: quot; عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية quot;، الشئ نفسه ينطبق علي استراتيجية quot; التأجيل quot; التي يتم استخدامها من أجل إكساب القرارات المكروهة القبول وتقديمها كدواء quot; مؤلم ولكنه ضروري quot; (أو أكل ميتة كما يقول مرسي) مثل قرض صندوق البنك الدولي الأخير، وغيره من القروض القادمة، حيث يتم انتزاع موافقة الشعب في الحاضر على تطبيق شيء ما في المستقبل (غالبا ما يكون كارثيا تدفع ثمنه أجيال وأجيال).
لكن استراتيجية quot; استحسان القبح quot; أو الرداءة أخطر هذه الاستراتيجيات جميعا لأنها تدمر (إنسانية الإنسان)، وهي لا تكل أو تمل عن تشجيع الفرد (بالتخويف الديني تارة والإرهاب والقتل تارة أخري والعبث في مناهج التعليم تارة ثالثة وبرامج الإعلام تارة رابعة) علي أن يشعر بأنه من (الرائع) أن يكون جلفا غبيا وفظا همجيا، جاهلا عابثا، وليس حساسا ذكيا أو مثقفا لطيفا بشوشا مقبلا علي الحياة ومباهجها، فمن وقف وراء (إلغاء) مادة الموسيقي في وزارة التربية والتعليم هو من (غطي) وجه quot; تمثال أم كلثوم quot; بالنقاب في مسقط رأسها (محافظة الدقهلية) وهو أيضا من (يعري) بنات ونساء مصر الثائرات في الميادين وأقسام الشرطة والمعتقلات، ومن أطاح برأس تمثال طه حسين هو نفسه من هدم تماثيل quot; بوذا quot; وquot; المعري quot;، ولا يتردد في ذبح رؤوس البشر المختلفين معه في الفكر والعقيدة، من العراق وحتي المغرب العربي الكبير مرورا بسوريا ومصر وليبيا والسودان ومالي والصومال الشقيق.
[email protected]