quot;الفنان كل السياسيquot;، مقولة يرددها النظام السابق في العراق على لسان quot;قائده المُلْهَم والُملْهِمquot;، هذه العبارة كنت ألوذ بها حين اُستدعى الى المنظمة الحزبية. في إحدى المرات استدعيت إلى مركز صدام للفنون لأمثل منظمة المنطقة الحزبية هكذا قال مسئولو الحزب: ما دمت فنانا والفنان كل السياسي كما قال القائد سوف نرسلك إلى مركز صدام. لم أستطع الإفلات منهم مؤقتا إلا بأصعب الطرق وبمختلف الذرائــع، لأنه بمجرد أن تطأ قدماي أرض المكان حتى يصبح لزاما علي أن أنضم لبيادق البعث وأجندّ لخدمة القادسيـة أو أية معركة أخرى فهن كُثرٌ، ناهيك عن لزوم إهداء مقطوعات موسيقية quot;لقائدهم quot; في المستقبل.!! كما فعل أحد عازفي العود حيث أصبح نزيلاً دائماً في مركز صدام للفنون طلبا للشهرة فحصل على الدعم الاعلامي والمالي لاحقاً. طبعا لا ينتهي الأمر حتى بكتابة التقارير الأمنية وشاية بالفنانين الآخرين. ازداد خناق المنظمة الحزبية عليّ بعد تملصي منهم. أما حينما قبضوا عليّ ليلاً وسلموني السلاح للالتحاق بالجيش الشعبي ثم كيف أنقذني أخي الأكبر بتطوعه عوضا عني فهذه واقعةٌ لها حكاية طويلة.

بدأت فكرة الهروب من العراق تتبلور ولم أتجاوز سن العشرين من العمر، ويوماً بعد آخر أخذت تسيطر علي هذه الفكرة حيث ازدادت قناعتي بهــا فلم يعد لي خيار آخر سواها. أثناء ذلك علمت بإعدام جارنا وصديقنا (أبو شفيع) فدق عندي ناقوس الخطر بصوت أعلى. فقد أكون أيضاً في قائمة المشتبه بهم..!! فأقتل دون أي سبب وبشكل رخيص!! وهذا أمر حدث مع الكثيرين. وقتها لم أستطع ترك البيت فقد يأتي بين ساعة وأخرى صديقي الحميم الذي وعدني بالمساعدة. بقيت مشتتاً مبعثر الأفكار تماما وفي حيرة من أمري!! في خضم تلك الهواجس التي طوحت بي يمينا وشمالا، طرق عاصي الباب لينتشلني بكلمة quot;استعدْ لكي ترحل الليلة إلى السليمانيةquot;!!

الرحيل

الفنان أحمد مختار في شقلاوة (كردستان العراق) أثناء انتفاضة عام 1991.

لفنا الليل بعباءته وتحت سكونه وظلامه تسللت من البيت من دون كلمة وداع لأهلي تاركا رسالة مع صديق لا يعرف ما فيها سلمها لهم بعد أسبوع من غيابي خوفاً عليهم من بطش الأمن والمخابرات ولم أستطع توديع والدتي أو أن أعانقها أو أن أرمقها بنظرة الوداع الأخيرة مما شكل لدي شعور بالذنب اتجاهها حتى هذه اللحظة رغم مرور أكثر من 26 سنة على ذلك، خاصة أنها فارقت الحياة دون أن أراها ثانية..!! مع الفجر وصلنا كراج مدينة السليمانية. لم تمر أكثر من بضع دقائق حتى ألفينا أنفسنا في مرآب السيارات لننتقل وبسرعة إلى سيارة أخرى ذاهبة إلى مدينة حلبجة. كان عاصي قد دبر الأمر: إذا سُئِلنا فعلينا أن نقول نحن ذاهبون لعزاء صديق من سكان مدينة حلبجة. بالفعل حدث ما توقعه عاصي، إذ أوقفتنا سيطرة حلبجة الاستخباراتية.

-الى أين أنتم ذاهبون؟.. سأل رجل الأمن بوجه عابس وصوت حاقد على الإنسان والحياة، فغالبا ما يتم اختيار هؤلاء العناصر لتاريخهم الشاذ ليمارسوا حقدهم وعقدهم بلا رحمة في تعاملهم مع الناس.
-لعزاء صديق.
-ما اسمه؟
-بعد تلكؤ وتلعثم من شدة الخوف والرعب.. ذكرنا الاسم..
فغاب رجل الأمن بعد أن صوب نظرة لنا بريبة وشرر...
حينها تذكرت جارنا المعدوم أبو شفيع.. الذي قُبض علية هو الآخر في كراج السليمانية. فما المانع يا ترى فيما لو لم أعجب رجل الأمن وقام بإلقاء القبض عليّ، بكم إعدام سأحكم، لأن أيّ فعل أقوم به عليه حكم بالإعدام حسب قانون الطاغية الدموي. فعدم الالتحاق بالخدمة العسكرية لاقتل في حروب حسب الطلب والأهواء عليه إعدام، والهروب خارج العراق لاستنشاق هواء الحرية عليه إعدام، وتجاوز الحدود بطريقة غير قانونية بعد أن مُنع السفر وأغُلقت الحدود جميعها عليه إعدام، أضف إلى ذلك أن أخي هارب خارج العراق منذ العام 1979 لأسباب سياسية، واثنين من أولاد عمتي تم إعدامهما بتهمة الانتماء لحزب الدعوة وابن عمي كان معتقلا في المخابرات ولا نعلم لماذا... حقيقة لم أكن أخاف من الموت ولكنني كنت أخشى التعذيب وصنوفه التي يعرفها العراقيون وأخشى على أمي وأهلي وأخواتي. فهؤلاء الجلاوزة قوم بلا شرف.. وما يستفزهم أنهم بلا شرف... مرت دقائق كأنها شهور من الرعب ثم عاد رجل الاستخبارات صاحب الشارب الطويل حتى الحنك وكما كان يسميها العراقيون (شوارب ثمانية شباط)، قال بوجه عابس: أعطوني هوياتكم... بعد أن تفحصها بعين جلاد عدة مرات قال: اتركوا هوياتكم معنا واذهبوا لكن ارجعوا قبل حلول وقت المغرب فقد سألتُ عن العزاء وقيل إنه سينتهي اليوم... تنفسنا الصعداء وردت أرواحنا إلينا..

دخول حلبجة

دخلنا مدينة حلبجة وكان الوقت صباحا خريفيا من أيام الشهر العاشر عام 1987 فأحسسنا برائحة الرمان تتناثر في فضاء المدينة يحملها نسيم برد الصباح المشرق، وأدهشتني ألوان المدينة الزاهية التي ترسمها الأشجار المتنوعة المطلة من الأبنية أو عند حوافي الطرقات، وأوراقها المتساقطة على الطريق والأخرى التي مازالت في الانتظار، ثم نهرها الصغير الموسوم بأنواع من الأشجار المثمرة. أما أزياء النساء والرجال، خصوصا فتياتها فكانت تشبه لوحة فنان عشق قوة التلوين فتفنن في ابتكار أكثر الألوان جمالاً، ناهيك عن الجبال المتفردة التي تحرسها من عدة جوانب.. انتبهت ونحن على باب بيت من بيوت مدينة حلبجة... آهٍ، لم يكن وقت لذلك. لكن رغم الظرف المرعب الذي كنا فيه شدني جمال المدينة ونحن في الطريق إلى بيت صديق عاصي... ضيّفنا الرجل وقال: كاكا لا تخرجوا إلى الحديقة أبدا.. عاد بعد قليل ومعه لكل واحد منا شروال كردي وبشتين(وهو قماش بعرض متر وبطول يتجاوز 5 أمتار يُلف عدة لفات حول البطن والظهر كالحزام ). للبشتين فوائد ومهام عرفتها لاحقا حين عملت مع إعلام quot;البيش مركه quot; المسموع في أحد القواطع في جبال منطقة قرداغ. مجرد الالتحاق بالعمل النضالي في جبال كردستان سيعددون لك فوائد البشتين وكيفية لفه ومتى وكيف تستخدمه.

قال لنا مضيفنا برزان مداعبا: كاكا أصبحتم كوردا.. قلت: هكذا ببساطة، قال: نعم ما دمتم أكلتم وشربتم معنا ولبستم زينا... هكذا أتذكر طيبة الكُرد دائماً ولم أكن أعرف أنني سأؤلف ذات يومٍ بعد أكثر من 10 سنوات من هذا الموقف، قطعة موسيقية أسميتها (ديهات) أي قرى باللغة الكردية، لأصف طيبتهم وضيافتهم، وأنني سأهديها إلى الشاعر الكردي بلند الحيدري وإلى الشاعر شيركو بيه كه س وأنني سأعزفها في أولى امسياتي بلندن عام 1998.

عند سفح الجبل
في ذلك المساء، ونحن في بيت كاكا برزان الحلبجي، بلغ توتّري ورعبي إلى قمته، فالإعدام بعد التعذيب لن يكون مصيري وحدي فحسب، بل سيطال أهلي أيضا، وسيطال التحقيق الأقارب من الدرجة الرابعة. لكن ما أثار دهشتي هو رباط جأش كاكا برزان- مضيفنا وهدوء أعصابه ومزاحه الدائم معنا للتخفيف عنا رغم أن مصيره لن يكون أفضل من مصيرنا. لم أكنْ أعرف سر ذلك التصرف إلا بعد مرور سنين طويلة من العيش مع الكرد.. لقد كان مضيفنا صاحب قضية ولا يخشى ما سيحدث له من أجل قضيته حتى لو ذهبت حياته ثمنا من أجلها. فهو فلاح فيه شجاعة وشيمة المضيف الأصيل، فكان هذا سر قوته. بعد منتصف الليل جاءت سيارة من نوع (جيب) بدون أن تحدث صوتا متخفية في ظلام الليل، حيث وقفت خلف الدار، فهرعنا متسللين حيث ركبنا في الخلف. سارت بنا في شارع معبد وبعد حوالي عشر دقائق تقريباً فنزلنا إلى طريق وعرة، سارت بنا إلى أن بلغنا سفح جبل بعد نصف ساعة، حينها ترجلنا، فقال برزان: لا تخافوا فأنتم الآن خارج قبضة صدام. حينها عانقت برزان بحرارة ومن سفح الجبل المطل على مدينة الرمان - حلبجة ألقيتُ نظرة على هذه المدينة المستلقية بهدوء وسلام، حيث الجبال تحميها، حينئذ تساءلت: هل سأتنفس الحرية من ثغر هذه المدينة؟ ربت برزان على كتفي وقال : كاكا quot;اخوا حافيزquot; في أمان لله، لكن، احذروا الجحوش (وهم مليشيا من الأكراد كانوا يتعاملون مع النظام مقابل المال ويطلق عليهم تسمية quot; الفرسان quot;). كانت تلك هي نظرتي الأخيرة إلى عروس المدائن حلبجة، قبل أن تتلبد سماؤها بالكيماوي وتقصفها الطائرات بالغازات السامة، قبل أن تمتد لها يد الإجرام وتحرق أطفالها ونساءها وشيوخها ورجالها وبساتينها ورمانها.. قبل أن تتحول اللوحة الفنية المفعمة بالحياة المزهرة بالألوان إلى لون أسود ورمادي، قبل أن تخطف رائحة الدخان والحرائق نسيم المدينة المعطر برائحة الرمّان، قبل أن تصير مدينة ميتة، أي قبل أن تصبح حلبجة هيروشيما الشرق الأوسط.

كل هذا كان عليه أن يحدث بعد بضع شهور من استضافتها لنا. بعد سنوات حينما اشتركت في انتفاضة عام 1991 رجعت متلهفا لزيارتها لأشهد ما حل بها فوجدتها منطقة محظورة.
أما كيف أكملنا المسير على الأقدام وكيف تصرفنا حين تعرضنا لابتزاز (الجحوش) وكيف اجتزنا حقل الألغام ووصلنا إلى المنطقة المحررة (كما كانت تسمى)!! إذ كانت ضمن سيطرة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.. فهذا سأذكره في سيرتي ومذكراتي التي لا تنتهي فصولها حتى بعد وصولي إلى إيران ودخولي معسكرا يضم مئات اللاجئين من أهالي مدينة حلبجة الذين كانوا قد انتفضوا ضد إجرام النظام الدكتاتوري. يبدو لي أن انتفاضتهم هي السبب في قصف مدينتهم بالأسلحة الكيماوية ليكون عقابا جماعيا لهم، وهذا النوع من العقاب يُشبه تماما ما حدث لمدينة الدجيل(رغم الفارق في نوعية السلاح المستخدم) حيث أزالتها الجرافات من الخريطة كعقاب جماعي بسبب انتفاضتها أيضا ضد النظام.

ولن تنتهي فصول رحلتي حتى بعد هروبي إلى تركيا عبر الجبال مرة أخرى ولا حتى عند قرار الأتراك تسليمي لاستخبارات صدام، حسب اتفاقية التعاون الأمني المشترك بين نظام الأخير وتركيا.
إنها رحلة شقاء ذات خمس نجوم.

عازف عود و مؤلف موسيقي