قصة quot;غريبquot;

قبل عشر سنوات هاتفتني صديقة عربية ذات تاريخ تروتسكي، وحاضر مشوب بغرام quot;المقاومةquot;، وحزب الله، سيدة مناضلة، مثالها تجربة إيران، لاتقبل بغطاء الرأس، لكنها تزدري الإيرانيات اللواتي يضقن به، تلعن الغرب وتتمسك بديمقراطيته التي تتيح لها حق التظاهر وانتقاد سياسته بصوت عالٍ. في ذلك اليوم العظيم، التاسع من نيسان- أبريل، وصلتني تحيتها مفرغة من نفَس الصداقة المعتاد بيننا، قالت بتهكم : ها قد جاءكم الأميركان، فماذا ستقولون للعالم، قلت لها: لا يهم من جاء، فقد سقط صدّام، وقد هُدم تمثاله، وتناثرت هيبته القاسية، والناس يطيحون بجدارياته العالية، ويقذفونها بالأحذية، دعينا نفرح قليلاً، اليوم تهدأ فينا الجراح، وتسكن ثورة الدماء لمئات الألوف من الضحايا، اليوم يصلي الشباب الذين قُطعت آذانهم وألسنتهم، صلاة الشكر والخلاص، اليوم تبلغ الأمهات الثُكالى مرادهن في الثأر من الطاغية، وتعود البسمة لسماء حلبجة وكل مدن الإنتفاضة المجيدة. لم تسمعني صديقتي وصبّت لعناتها على أميركا وأحمد الجلبي، وقالت ماذا يعني كل ماقلتيه أمام واقع الإحتلال؟ زادت في تعاليها على فرحتي، وعلت نبرتها، وأنا ألتمس منها الهدوء، فصداقتنا كما كنت أرى أهم من جمود المبادئ، لكنها لم تبالي فانتهى حديثنا لتبدأ قطيعة مؤسفة تواصلت حتى الآن، وهي تشبه قطيعة معظم المثقفين العرب، وعوامهم، مع غالبية شعب العراق.
هذه ليست إلا مقدمة لقصة quot;غريبquot;، العراقي الذي عاد إلى الوطن، من منفاه السويدي ليشهد وقائع ذلك اليوم، هو يشبه صديقتي بفوضوية يساريته، وكرهه لأميركا، لكنه نسي كل شيئ وعاش عراقيته، معانقاً تلك اللحظة الفارقة من عمر البلاد. أما كيف وصل بغداد فهذا شرحه يطول، هو لم يشأ أن يكتب شيئاً عن نفسه، لكن أخته وضحى جمعت أوراقه واستأذنت منه لتقديم خلاصة لها، وطلبت مني نشرها، فهو يرقد الآن مريضا، بعد أن استيقظت أوجاعه من حادث قديم، ولكن لا يفوتنّكم اقتناء قصته حين تصدر قريباً، ففيها أشعار والحان، ورائحة أماكن كلنا نشتاق لعطرها:
{ .. تحرقني المسافات وأنا أقطع طرق الجنوب، وألمح في رمال الصحراء عيون الجنود وهم يتساقطون، عائدين من رحلة الموت على أبواب الخليج.. كنت معهم لكني نجوت، ويممت شطر الجوار، فاصبحت لاجئا في مخيم كبير، يفترش الصحراء، تمنيت الموت مراراً، وما صدقت حين امتدت لي يد دولية محسنة، نقلتني إلى قرية نائية في السويد، حينها ولأول مرة منذ أن ساقوني لحرب الكويت، بدأت أمارس حياتي واكتشفت أني إنسان. في الطريق توقفت مع الجموع عند مقهى فشاهدت على إحدى الفضائيات أبي تحسين وقد اجتاحته نوبة من الفرح والغضب فأشبع صورة صدام بضربات من نعاله الشهير، ولم يكن قد أُعلن بعد عن سقوط النظام. كنت ابتسم لكل الناس، أصافحهم، سلمت على امرأة كانت تحمل طفلاً جميلاً، وأسفت لأني لم أعش حياتي لأكون أبا لمثل هذا الطائر الرقيق، تناهبت المسافات وسخرت بالخوف من صرير الدبابات وهول مسيرها، ومن موقع إلى آخر، تتلاحق أنفاسي وتنقطع تارة من غبار البارود، وتارة من شوقي لبيتي وأمي وأخواتي الثلاث، ترى ماذا حلّ بهن في غيابي، وهل مازال خالي عباس يحنو عليهن؟ أشتقت لحضن أمي ورائحة عباءتها يوم كنت أرافقهها لزيارة والدي لآخر مرة قبل إعدامه في سجن أبي غريب. تتابعت في خاطري صور الحنين حتى أيقظني وقع الهتاف، الناس بين الذهول والفرح، لقد تهاوى النصب العالي، البنيان القديم تتساقط أجزاءه ليختلط وجه الطاغية بتراب الأرض، ها قد حانت لحظة الحق والحساب، فأين صاحب التمثال، أين توارى من غضب الجموع. آه من المسافات، لماذا لا أكون معهم، حذروني من مخاطر الطريق، لكني لم أصغ لهم ووصلت بعد ثلاثة أيام، لم أكن أخشى الموت فقد لامست أطرافه مرات ومرات، الناس تغيروا كثيراً، بعضهم مازال خائفاً من اختفاء صدّام، لعلّه يخطط لأمر ما، رجل حزين كان يقف على مقربة من زقاق بيتي، كان يمعن النظر اليّ، لم أعرفه لكن لهفته ومبادرته لي بالعناق، جعلتني أتذكره، أنه شياع، فراش مدرستنا الذي تجرأ يوماً وضرب أحد البعثيين، فقالوا عنه أنه شتم الرئيس، ترى كم سنة قضى في السجن وكيف شوهوا وجهه بهذه القسوة؟
- إنها معجزة يابُني، حسبناك بين الذين غيبتهم نيران الحرب، لا تذهب إلى أمك، دعني أمهد للقائك، دارك مازال على حاله، لكن خالك قد اختفى منذ سنين، عسى أن يعود مثلك.
أعلم إن المفقودين نادراً ما يعودون، لكني حملت الأمل وتوقفت عند باب الدار ريثما يشرح العم شياع ظروف عودتي، فتهدأ دهشة أمي، ويرتاح خافقها المتعب من رحيل الغائبين، قال لها إن رجلاً من البصرة حدثه عن شباب قدموا من مدن أوروبية، بينهم كثير من المفقودين، وقد وصف أحدهم بما يشبه إبنك غريب، من يدري، لا تستبعدي رحمة الله، ظل يحادثها بلهجة اليقين بعودتي، وكانت قد نزعت عنها رداء السواد منذ أن أخبرنها أخواتي بانهيار النظام، حينها دبّت في أطرافها الحركة بعد طول رقاد، قامت لتفتح الباب، سمعت خطواتها فابتعدت، كان شياع يأخذ بيدها، سارت إليّ وأنا أظهر من وجهي النصف كي أخفف عنها وقع المفاجأة، سمعتها تقول: أهذا من أخبرك عن غريب؟ زاد حنينها ولم أصبر، تقدمت صوبها وضممتها إلى صدري وهي لم تدرك بعد من أنا، ضعُف نظرها من مسيل الدمع في سنين مضت، قالت لي لماذا تخفي بعض وجهك؟ لم أجبها ودخلت الدار معهان ودون أن أشعر توجهت إلى غرفة والدي، وفي هذه اللحظة عرفتني، وتحلقت حولي أخواتي، أشتقت لهن فقد فارقتهن وهنّ صغيرات، واليوم يزهون بريعان الشباب، لكن شيئاً ما يكسر جناح فرحتهن ّ بلقائي، بكت سلوى بعد أن ألقت برأسها على كتفي، إنها الأقوى بينهنّ، أعتقلوها وعذّبوها وهي تخفي جراحاً لا تبوح بها، قرأتها في عينيها، استباحوا جسدها فاختارت أن تتوارى خلف حجاب، أدهشتني لغتها الجديدة، ومفردات الدعاء والتسبيح، قالت لي ندى أنها لا تكف عن الصلاة والإستغفار، ولولا عملها كمعلمة لترَهبت تماماً وعاشت في عزلة، كانت قد اضطرت إلى االإنتماء الصوري إلى حزب البعث لأن ذلك شرطاً لدخولها معهد الفنون الجميلة، ولم تنتبه ما كان يمليه عليها هذا الوضع فواصلت علاقتها بصديقاتها، وكان بينهن فتاة من حزب الدعوة، أُعدم أخاها، وحين رصد الرقيب تردد سلوى على دار صديقتها، رفع تقريره عنها، وما كان سوى متشرد يتربص ببنات الحيّ، ولولا مساعدة رجل طيب من معارفنا ذو صلات ببعض المسؤولين، لأتهموها بالإنتماء المزدوج، وعقوبته الإعدام.
قلت لهن دعونا من البكاء ولنسر في الشوارع، لنذهب إلى ساحة الفردوس، لم تبارح ذاكرتي صورة نصب الجندي المجهول، الذي هُدّم بأمر من صدّام في الثمانينيات. في طفولتي المبكرة كنت أرافق والدي إلى ذلك المكان في يوم الرابع عشر من تموز من كل عام، حكا لي عن تعلقه بذكرى الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، كان يخدم في وزارة الدفاع ويلاحظ كيف يعيش الرجل الأول في البلاد حياة الزهد والعمل المضني، ظل مخلصاً له، مقدّرا لتضامنه الحقيقي مع الناس، فهو الذي أمر ببناء مدينتنا (الثورة) لتجمع كل الساكنين ببيوت الصفيح والصرائف على أطراف بغداد.
بعد أن اطمأن الحنين في قلوبنا وتيقنّا ان لا تفارق، قررت البقاء مع أهلي والبحث عن عمل، كان الأمر سهلاً في البداية قبل أن تتضح صورة الخطر، وحتى بعد أن أسفر الإرهاب عن وجهه العروبي والإيراني، لم أتراجع عن نيتي في البقاء، إلى أن جاء ذلك اليوم العبوس حين طلبت مني أمّي أن أصحبها لتقديم واجب العزاء بوفاة أحد أقربائنا، كنا نستقل سيارة بين سبعة سبع، تتقدمها الجنازة، وما أن توقفنا أمام مفرزة للتفتيش، حتى هبّت رياح الموت من كل جانب، ثمة بهيم آدمي فجّر نفسه قرب النعشن فاستحال في لحظات إلى حطام متفحم تفوح منه رائحة كريهة، تناثرت جثث المعزّين، وتهشم التابوت، صرخت باسم أمّي فلم تجبني، وتحسست أطرافي فلم أجد ساقي، غرقت في دمائي، وفقدت الوعي لأصحى في آخر المساء على لمسة مواساة من أختي سلمى، وهي تتمتم: لا اعتراض على إرادة الله، بينما كانت ندى تذرف الدمع، ووضحى تلعن الأقدار.
جمعت أمتعتي عائداً للسويد، مؤقتاً للعلاج فقط، على أمل العودة، فلا أطيق فراق أخواتي، لكن الرحلة طالت فما استطعت السفر إلا بعد عام. وجدت سلمى قد تغيرت قليلاً، وعلمت من وضحى بأنها على وشك الإرتباط برجل دين، كانت مستاءة فهي لا تحب هذا الصنف من الناس، ولا تثق بهم، وفعلاً ما هي أشهر حتى تزوجت، واستبدلت غطاء الرأس والجلباب بالعباءة والبوشي القديم (غطاء أسود للوجه)، لم أحزن عليها مثل حزن أختاي وبنات خالي، فسيكون لها بيت وربما أولاد، ومادامت راضية فلماذا الإحتجاج. مرت الأيام والشهور وسلمى لا تزورنا، ذهبت لزيارتها بصحبة ندى ووضحى، أوقفنا حراس على الباب نظروا لنا بازدراء وخاطبني أحدهم : ألا تستحي من مرافقة امرأتين بلا حجاب، إنتظر سأجلب غطاءً لرأسيهما، فلن يستقبلهما quot;الشيخquot; بهذه الهيأة المخجلة، تحفزّت وضحى وكادت أن تشتمه لكني منعتها، وعندما دخلنا وألقينا التحية، بحثنا عن سلمى فلم نجدها، رأينا امرأة أخرى بلا عاطفة ولا حياة، وفوق ذلك قد علا سحنتها قناع من التكبّر والإسفاف في التديّن، أما زوجها فقد أطّل علينا بعمامته الكبيرة البيضاء، سلّم بتكلف واعتذرعن البقاء لعمل مهم، شعرنا بالغربة في هذا البيت، وعذرت حزن فتيات عائلتنا، فالحقيقة لم يعد لنا أخت إسمها سلمى، فقد أغرقتنا بعبارات النصح ولم تمنحنا ما نستحق من ترحيب وحب كنا نتوقعه منها.
كانت صدمتنا بها شديدة، والخوف من المقبل أشّد، ما ساعدني على إقناع أختاي بالإلتحاق بي في السويد، وهكذا عدت وبدأت بالإجراءات اللازمة التي استغرقت قرابة عامين، ونجحت في الإنتقال إلى مدينة كبيرة باتجاه الجنوب الأكثر دفئاً، كي أستعد لاستقبالهما، وكان من حظهما إن وصولهما صادف في شهرتموز. لا أستطيع وصف فرحتهما، أحقاً تسيران في الشارع بحرية وكرامة، دون خشية من آمر بالحجاب أو متطفل بالنظر المريض؟
سارت حياتنا بشكل عادي وتوفرت لدي فرص جديدة فأكملت كتابة قصتي الرابعة، وبينما كنت أتعاقد على إصدارها مع ناشر في
بغداد، فوجئت برسالة من أحد الأدباء من أصدقائي، يدعونني للمشاركة في فعّاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية، لم تشأ وضحى ولا ندى مرافقتي فقد كانتا مشغولتين بالدراسة، ولم أجد في نفسي ذلك التوق القديم لأرض الأهل، فالأم حين تغيب تأخذ معها الجزء الأكبر من الوطن، وكذا الأب، ولا أمل بعودة خالي، وسلمى التي كانت أختي، لم تعد تذكرني لأني بنظرها غير ملتزم ، أصبحت أستاذة في الحوزة، وتدير جمعية لليتيمات، أشتاق لطفولتها وبراءتها القديمة، ويعتصر قلبي جحودها وتماهيها في تديّنها الجديد الذي غابت عنه عفوية الحزن والتسليم لله.
قررت السفر قبل فترة طويلة من بدء المناسبة، واخترت التوجه إلى العاصمة من أربيل لزيارة أصدقائي هناك، سعدت بمظاهر العمران،وبما يبدو على وجوه الناس من أطمئنان على أمنهم، تمنيت أن يدوم هذا وأن لا تنتقص منه الخلافات، بخاصة وأننا نفتقد نشرات يومية عن حالة الرئيس، ولا نعرف من سيخلفه على رئاسة حزبه، وكيف ستكون العلاقة مع الحزب الشقيق لرئيس الإقليم.
أول مكان قصدته في بغداد كانت ساحة الفردوس ( الجندي المجهول سابقاً)، قدمت الشكر للأيادي التي أطاحت بتمثال الرئيس البائد، تألمت لأن المسؤولين أهملوا الإحتفال بذكرى التاسع من نيسان، وكأنهم نسوا كيف وصلوا إلى السلطة، وجمعت حفنة من تراب، أتيمم بها إذا ما طال بعدي عن البلاد، استعدت منظر ذلك النصب البسيط للجندي المجهول، وابتهج قلبي لأخبار تقول أن أمانة العاصمة ستعيد بناءه كما كان، قلت يا ليت كل شيئ يعود كما كان في طفولتي البعيدة، لكن دون ذلك ما يعيشه الناس من خراب وفساد يعوق الإعمار، وتعدد انتخابات لاتحمل غير الوجوه القديمة، حرصت في الآخر على أن أجمع أكبر قدر من ملصقات الدعاية للإنتخابات المحلية المقبلة، كي تكون مادة للفكاهة، أضمنّها في قصتي الجديدة المفعمة بالأسى، فقد علمت مؤخراً بمصير خالي المفقود من سنين، كان قريباً إلى قلبي، عوضني عن فقد أبي، أخبرني رفيقه في السجن بأنه أَعدم في حملات صدّام لتصفية السجناء.
أعجبتني دعاية إحدى السيدات، نائبة في البرلمان، تدعو الناس لانتخاب زوجها، وتقف معه في الصورة بكل كبرياء، وكأنها أنجزت بناء دور لسكان المخيمات، أو حررت النساء من الخوف والفقر. بوستر آخر لرجل يحب زوجته، يحثّ الناس على انتخابها، ويكتفي بوضع صورته، مرشحات تقيّات رسمن أمرأة ترتدي عباءة، بوجه طباشيري بلا ملامح من شدّة التقوى، وليس آخر الغيض من فيض، صورة شيخ راحل، وعبارة تقول: انتخبوا زوجة الشيخ المرحوم، فرحت وقلت ربما تكون أختي سلمى، وقد تصبح أقرب لنا بعد رحيله.
قلت سلاماً عليك يا بغداد، الحبيبة القديمة، وتمنيت أن أصدق ما قاله رئيس الحكومة، من أن النمو الإقتصادي في العراق يتوقع أن يبلغ في العام 2016، نسبة 9.4 بالمئة، وبعد أن أكّد بأن العراق أصبح ثاني دولة مصدرة للنفط في منظمة أوبك، تراءى لي الجياع وقد شبعوا، والعاطلين اشتغلوا، والعازبين تزوجوا، نأيت بنفسي عن وساوس القلق من الإشتباك الطائفي، وصرخات الصرخي ورعود البطاط، وتشنج بعض أصوات المحتجين، وخوف الناس من عودة البعثيين، وأشياء أخرى لابد أن ننساها لنملأ جزءاً بسيطاً من كأس التفاؤل فقد أوشك أن يجّف.