كم عراق لدينا بعد العراق quot;الجديدquot;، سؤال لا ينبغي أن يأخذنا إلى جبهة المتوجعين النائحين على صدّام، من عراقيين وعرب، بل إلى النظر في تكلفة التخلص من الحكام الطغاة، سواء بعد ثورة شعبية، أو بفعل غزو أجنبي، السؤال يفتح أذهاننا لتحليل ما جرى والإمعان في صورة المتصدّرين للمشهد السياسي من مسؤولين ومعارضين، من هم، ماذا قدّموا، ما درجة ارتباطهم بالخارج، كيف يمارسون لعبة ملفات الفساد، كيف تعمل ماكنة الإرهابيين، ومن ينسق معهم من السياسيين؟
العراق على مقاس اللاعبين في العملية السياسية لم يعد واحداً، فالمال حين يجري في عروق الأحزاب والعصابات المسيسة، وبنسب تفوق خيال الأرقام، ينتفي معه الإحساس بمفردات مثل الوحدة الوطنية والعدالة والمصلحة العامة، المال يغوّل الأنا ويستحث نزعات الشر. وبالطبع ما كان لعملية النهب العام أن تتم لولا الناهب الأكبر، الراعي الأميركي، ودول إقليمية استنزفت العراق بسبل شتى، ومدّت خيوطها لتربط كتلاً وأحزاباً وعصابات.
كم عراق لدينا؟
دويلات الأحزاب الإسلامية الشيعية، التي استثمرت حالة الخواء المعرفي لدى عامة الناس، وبنت على بقايا حملة صدّام quot;الإيمانيةquot;، وقسوة الحرمان من سنوات حصار التسعينيات، لا أظلمها بالتعميم، هناك اختلافات، فعلى سبيل المثال، لا تقارب بين معظم المتعلمين والمثقفين من حزب الدعوة، وبين أكثرية الصدريين على تنوع عناوينهم، ولا تماثل بين إسلاميي المجلس الأعلى، ونظرائهم الدعوويين، إنما هي مشتركات المذهب والخوف من الآخر، في هذا السياق الكل يحاول توظيف مراجع الدين المحلية، مع تمايز الصدريين بمرجع يعيش في إيران (الشيخ كاظم الحائري)، وكل من هذه الدويلات لا يأبه بحقيقة الدين كبعد روحاني، لأن ما يهمه هو كيفية تسخيره لخدمة أغراضه، والمرجعية الأساسية المتمثلة بالسيستاني، منكفئة على نفسها، تفتقر إلى نظام مؤسساتي يكشف ثروتها الكبيرة وآليات عملها، وهي بحد ذاتها تستجلب عاطفة كثير من العراقيات والعراقيين، لكنها بلا قوة حقيقية، ولا أمل في تحديث مناهجها الفكرية، هذا على الضفّة الشيعية، فهل من تقدم الحديث عنهم يمثلون ملايين الشيعة حقاً؟ لا أظن ذلك فقد تراجعت شعبيتهم بالتزامن مع سوء أدائهم.
في الجانب الآخر من دويلات الإسلاميين، أو إماراتهم يظهر الحزب الإسلامي العراقي (الإخوان المسلمون) الذي حاول أن يقدم نفسه على أنه يمثل ملايين السنّة، وهنا تبدو الصورة أكثر تعقيداً، فالبعثيون الطامحون إلى إعادة سلطتهم، يعملون على مصادرة إرادة السنّة، والإستثمار المزدوج للإرث البغيض، الذي خلّفته طائفية صدّام ضد الشيعة، من جهة وضيق أفق معظم السياسيين الشيعة، وطائفية بعضهم في نظرتهم للسنّة، وذكريات الإقصاء في العهد السابق، من جهة أخرى. وليست بعيدة أخبار تلك الشعارات العنصرية والطائفية التي رفعها بعثيون اخترقوا مظاهرات المواطنين في الأنبار وصلاح الدين والموصل، وحاولوا تجيير الكثير من المطالب العادلة لمصلحتهم. على سبيل المثال، أحد قيادات الحزب الإسلامي، طارق الهاشمي، الذي تزعم الحزب للفترة ما بين 2004، و2009، لا يخفي تعلقه بقادسية صدّام التي جلبت الدمار للعراق، فقد كتب في صحيفة الحياة مؤخراً: quot;.. العراق غير مسموح له أن يكون حارس البوابة الشرقية.. quot; ، يقول ذلك وهو مرتهن لقيادة البوابة الشمالية (تركيا)، ومتهم بقضايا إرهاب، ومحكوم بالإعدام، يجوب الأقطار لاستجداء المواقف ضد بلاده، وقد محيت من ذاكرته أهوال الحرب مع إيران في الثمانينيات.
الدولة الثالثة، وليست الدويلة، هي إقليم كردستان، الفيدرالي إسماً، والمستقل واقعاً، ولكي لا أدخل في متاهات الحقوق الدستورية غير الواضحة والمتناقضة، ومعضلة الأراضي المتنازع عليها، وصلاحيات المركز والإقليم وكيف جرى التعامل بينهما، أقول إن من الأخطاء الكبيرة التي تورط بها السياسيون في العراق، اعتبارهم إن الحكم الفيدرالي ممكن، في الوقت الذي عرفت كردستان استقلالاً حقيقياً عن الحكومة العراقية منذ العام 1992، وابتنى هذا الإستقلال على ضعف حكومة بغداد، والضعف مازال هو الوصف الصحيح، والمطلوب من قبل القيادة الكردية، ودول الجوار. في هذا المشهد تبرز تركيا كمحرضة على تقويض الفيدرالية الهشّة، كمقدمة للقضاء على ما تحقق للكرد في العراق من منجزات، فالسياسة التركية تاريخياً، هي الأبشع في التعامل مع حقوق الشعب الكردي.
تبقى دويلة أخيرة هي فخامة الرئيس الغائب جلال الطالباني، وهذا بحد ذاته مشكلة كبيرة، فلا هو يشفى ويعود لممارسة مهامه في التوفيق بين المختلفين، والإستفادة من خلافاتهم، ولا يمكن تغييره لأن ذلك يثير عاصفة بين الكرد والعرب، فقد اقتنع قادة الكرد بأن الرئيس لابد أن يكون منهم، وكذلك وزير الخارجية، ومناصب أخرى، بالإضافة إلى أن مركزه المرموق يفتح شهية الطامحين من غير الكرد، إلى السلطة والمال الوفير.
وبين تلك الدويلات والدولة الشمالية، هناك أمراء الحروب من القاعدة، ووكلاء كل من إيران وتركيا، ودول أخرى، ممن يعملون لمصلحة دولهم، أو يؤجرون خدماتهم لكل من يحتاجها من أحزاب وكتل سياسية تتصارع على الحكم والثروة.
إن مقولة العراق الواحد لم تعد وصفاً دقيقاً لواقعنا، فقد خضعت البلاد لجراحة قاسية، أُسميت جزافاً ب quot;العملية السياسيةquot;، ومازال الشعب يئن بعد نفاد تأثير المخدّر، ذلك الخدر اللذيذ الذي كنا ضحية لنشوته العابرة، حين سقط تمثال الطاغية في التاسع من نيسان، العام 2003. الجزّار الأميركي فتح الجسد المريض، وتركه على حاله، والسياسيون في معظمهم يهيلون عليه من حطام ضمائرهم، ليخفوا عمق الجراح، وما الحديث عن الديمقراطية والدستور والكيان الفيدرالي، وأشياء أخرى، إلا كما قال المعّري : quot; .. حديث خرافة يا أم عمرو .. quot;.
وإذا كنا نبحث عن الوحدة فإنه على خلاف حالة التشظي الكياني والسياسي، فإن لدينا توحد في الثقافة !! أو هكذا يراد للعراق أن يكون، فالتوجه العام أو الغالب في الدولة المركزية هو إعلاء ثقافة الإسلام السياسي، إبراز الوجه الواحد، وإهمال الوجوه الأخرى. ومع إن رئيس الوزراء نوري المالكي كان قد أكّد في حديثه لمجموعة من المثقفين العراقيين، على احترامه للتنوع الثقافي، لكنه استدرك بأن الإختلاف في الثقافة يجب quot; أن لا يتجاوز على الأساسيات المتعلقة بالهوية الوطنية quot;، ولم يوضح مايعتبره أساسياً، وتحت هذا المسمى الغائم يمكن أن تحجب حريات، وأولها حرية التعبير.
والمالكي بصفته قيادياً في حزب أيديولوجي، وكغيره من الإسلاميين المؤدلجين، يصعب عليه هضم التعدد الثقافي، هو يعترف به، وباعتباره رئيساً للوزراء لابد أن يبدي احترامه له، لكنه لن يكون مغتبطاً بتأثيرات التعدد الإجتماعية، فيما لو أطلقت الحريات، ولن يقبل بأن يكون لهذا العامل أثر سياسي ذو أهمية، ذلك إن آحادية الفكر لدى غالبية الإسلاميين لا تساعدهم على التفاعل مع الآخر.
كعراقية شعرت بشيئ من الأمل لدى متابعتي لمهرجان quot; بغداد عاصمة الثقافة العربية quot; لكن حالة الصراع بين الكتل السياسية لا تبشر بالخير، فالثقافة لا تزدهر إلا في بيئة صحية أهم شروطها الأمن، والكفاية، واحترام حرية العقيدة، وهذه العوامل مازالت فقيرة لدينا، يؤكد ذلك قول المالكي بأن quot; العراق يواجه مخاطر أمنية وسياسية واقتصادية، نتيجة الثقافات الآحادية والمتطرفة، التي بعضها ناتج عن الحكام، والبعض الآخر مصدّر لنا، وإن الخطر الذي يهدد البلدان يأتي نتيجة الثقافات الهابطة، التي بدورها توفر البيئة المناسبة لظهور الميليشيات وأمراء الحرب quot;، هذا الكلام جيد، ولكن في واقعنا الآن من هو المسؤول عن إشاعة الثقافة الهابطة؟ اليست الأحزاب الإسلامية في شقّيها الشيعي والسنّي؟ لقد ذهب صدّام وثقافته quot;الإيمانيةquot; المتدّنية، فأين الثقافة البديلة غير الهابطة؟
وبعد فازدهار الثقافة لا يحتاج إلى مهرجان، ولكن إلى إرادة حقيقية للتغيير، لا أحسبها موجودة لدى سياسيينا حتى من يدّعوا العلمانية منهم.

[email protected]