جاءنا خبر من إمارة مجلس البحوث
في دولة الإخوان بأن المواطن يوسف
زيدان مطلوب للتحقيق بتهمة ازدراء
الأديان، فهل في كتابه شيئ من البطلان
أم أنه قال رأياً أغضب السلطان؟
* أوصى مجلس البحوث الإسلامية في الأزهر بعدم تداول كتاب يوسف زيدان (اللاهوت العربي وأصول العنف الديني). شباط - فبراير من عام 2013
كنت كلما انتهيت من قراءة رواية مبهرة، لحلو معانيها وسلامة لغتها، أشعر بالحزن لمفارقة أجوائها وناسها، لكني حين اقتربت من الصفحات الأخيرة لرائعة {عزازيل}، أحسست كما لو أني فقدت قريباً أو صديقاً، ورحت أبحث في ثناياها عسى أن أعثر بكلمة تدّلني على عنوان بطلها، الراهب،هيبا لأسأله كيف كانت هيباتيا، كيف انساب علمها وجمالها لقلوب الرجال، كيف اغتيلت الحكمة في شخصها، و ليحدثني عن زمن الصبر بين سكينة الزهد وفورة الشباب، كيف كانت رائحة البحر حين التقى أوكتافيا وأسكره سحرها، كيف دار به المكان، وماذا قال لربه وهو يغرق في غواياتها؟ هل تذكرها وهو يهيم ب (مرتا) وينهي معها رحلة الإيمان والشك؟ وأهم من كل ذلك كيف كتب رقوقه واستودعها رقّة شعوره، عذاباته ومسرّاته، وأسرار التاريخ من عهد كان يموج بحروب الفكر لتأسيس العقيدة، وتنبعث فيه نظريات من أعماق التاريخ لتختلط بالمقدس، وتتجاذب أطرافه مطامح الأباطرة.
يقول المطران يوحنا جريجوريوس: quot; يوسف زيدان هو أول روائي مسلم، يكتب عن اللاهوت المسيحي بشكل روائي عميق. وهو أول مسلم، يُحاول أن يعطي حلولا لمشكلات كنسية كُبرى..اقتحم حياة الأديرة، ورسم بريشة راهب أحداثاً كنسية حدثت بالفعل، وكان لها أثر عظيم في تاريخ الكنيسة القبطية quot;.
هكذا هو أدب يوسف زيدان ينطبع في العقل، ويورق في الذاكرة عاطفة ومعرفة لا تضاهى.
ولست فيما أقول عن صاحب الأدب الرفيع، الفوّاح بالحكمة، بغافلةٍ عما أُثير ضده بشأن رواية عزازيل، من اعتراضات تتعلق بتاريخ المسيحية، من قبيل ما أشار له القمّص عبد المسيح بسيط أبو الخير، استاذ اللاهوت وراعي كنيسة العذراء في القاهرة، التي لخصها بأن المؤلف ضرب العقيدة المسيحية، وأسلم شخصية الأسقف نسطور، ونسب فكرة الثالوث المقدس إلى الفيلسوف إفلوطين مع أنه متأخر عن ظهور المسيحية بعقود (مناظرة تلفزيونية بين القمص وزيدان، ويحيى الجمل، ووسيم السيسي- حوار منى الشاذلي)، كما لا أزعم معرفة بالتاريخ الكنسي، لكني أجد إن زيدان على حق في قوله، بأننا {لا نستطيع فهم التراث الإسلامي بعيداً عن المرحلة المسيحية ..} واعتقاده بأننا لن نفهم كيف دخل العرب إلى مصر بدون معرفة الواقع آنذاك، ففي روايته (النبطي) يتطرق بإشارات خاطفة وذكية إلى هذا الموضوع. نظرة زيدان إلى التراث لا تتجزأ، وهو يبرر تناوله لتاريخ الكنيسة القبطية بقوله إن {ستّمئة عام من تاريخ البلاد ليس ملكاً للكنيسة وحدها، .. ولن نفهم نهاية مجد الإسكندرية لو لم نقف عند المرحلة التي توقفت عندها عزازيل..}. هنا أقدّر الأسلوب المتّزن الذي عبّر به القمص عن اختلافه مع زيدان، ولجوئه إلى النقد المؤسس على التاريخ كما يفهمه، وقوله أنه ماكان ليكتب عن رواية عزازيل إلا بعد أن شهدت انتشاراً واسعاً على مواقع التواصل الإجتماعي، وفُهمت من العوام على أنها موجهة ضد المسيحية، وإنها تشكل انتصاراً لمفاهيمهم السطحية عنها، وهو لا يلوم مؤلفها على هذا، وإنما ينعى الأمية الثقافية، لدى القرّاء.
وكان مجلس البحوث الإسلامية في الأزهر قد أصدر قراراً بمنع تداول كتاب اللاهوت العربي، بناءً على دعوى حسبة، تقدم بها أحد المحامين إلى نيابة أمن الدولة ضد يوسف زيدان، في العام 2010، بحجة مساس الكتاب بالأديان، فطلبت النيابة رأي المجلس. والغريب إن تقرير المجلس توقف أمام قول زيدان : { أن أي دين أيّاً كان هو بالضرورة سماوي، لغةً واصطلاحاً، بمعنى العلّو والسمّو، لكن الصفة المميزة للديانات الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) هي أنها ديانات رسالية، لأنها أتت برسالة من السماء، وبرسول أو نبي } مع إن هذا الرأي لا يمس الأديان، بل يصفها تماماً كما هي في في عقول المؤمنين وقلوبهم، سامية عالية، كما إن الكاتب يؤكد على إن جوهر الديانات الثلاث واحد وإن اختلفت مظاهر التديّن. وكان عضو المجلس، الراحل الدكتور عبد المعطي بيومي قد قال عن كتاب اللاهوت أنه:
{ لا غنى عنه لأي دارس للفكر الإسلامي}، أفلم يكن هذا الرجل مسلماً وعالماً بالدين؟
النظرية الأساسية في منظومة المنع والقمع، إن القائمين عليها يرفضون أي تحليل فكري لنشأة الأديان، مع أنهم يسردون وقائع وينقلون أحاديث من شأنها ربط التنزيل بأسباب تتعلق بتفاصيل حياة الناس، هم يكتفون بتسطيح الظاهرة الإعتقادية، لكن يوسف زيدان يتعمق فيها، لذلك جاء تحليله في (اللاهوت العربي) صادماً لهم، ففي حديثه عن كيفية تتابع الأديان الثلاثة وتلقي الناس لدعواتها، يقول: {جاءت الأزمة اليهودية مبكرة منذ النص الأول (أسفار موسى الخمسة) لتقول لليهودي أنك أفضل مَن في الأرض، لأنك إبن إبراهيم .. هذه الأزمة أنتجت على مر السنين، فكرة (الماشيح) ملك اليهود المُخلص الذي يحقق الوعد الإلهي لإبراهيم quot; لنسلك يا إبراهيم أعطي هذه الأرض من النهر إلى النهر- التوراةquot;، لذلك نجد في الكتاب المقدس نحيب دائم لاستجلاب المُخلّص}، يتساءل زيدان: {بالعقل والمنطق لماذا يقول الله ذلك، والجماعة اليهودية آنذاك لم تكن تتجاوز سكان قرية، وما بين النهر والنهر شعوب كثيرة، فكيف يهب الله هذه الأرض لليهود؟}. ومن فكرة المخلّص ينتقل للحديث عن دعوة السيد المسيح، وكيفية تلقاها الناس في المشرق، ومصر واليونان، يقول:{..استُقبلت الدعوة بشكلين متناقضين، بالنسبة للمصريين واليونانيين، تلقوا البشارة بحسب تصورهم للإله، وهو تصور يجمع بين الإنسان والإله، في مصر؛ الفرعون إبن الشمس متماهي مع الإله، الإله المحتجب آمون، والظاهر فرعون}.
أما بالنسبة لليونانيين فإن صورة الإله في ذهنهم ترتبط بكبير الآلهة زيوس الذي نزل من عليائه وحطّ في تونس، ليصادف امرأة يعشقها وينجب منها نصف إله. وفي كلا التصورين - حسب زيدان ndash; ينظر إلى السيد المسيح على أنه الإله.
وحين نأتي إلى المشرق العربي، تبدو الصورة مختلفة، فهناك حضارات سبقت الإسلام {.. فامبراطورية زنوبيا قامت قبل أربعة قرون من ظهور الإسلام، وامتد سلطانها من حدود بلاد فارس إلى الأسكندرية، حتى قضى عليها الرومان في العام 271م، .. وفهم العرب للإسلام يتمثل بالمدى الواسع بين الإله في عليائه، والإنسان في الدنيا، وبينهما وسائط كثيرة: الجِّن والعفاريت والعنقاء والأشباح وغير ذلك، ولا يعرف العقل العربي التماس بين الله والإنسان، لذلك جاءت الأناجيل وفق العقلية العربية، فاعتبر المسيح نبياً}، ويضيف زيدان: { هذا ما وجدته عند آريوس ونسطور، والكنيسة النسطورية ممتدة حتى الآن، وطيلة العصر الإسلامي كانت هي الكنيسة الفاعلة في العالم..}. وبما أنه يرى أن الديانات الرسالية الثلاث هي تجليات لديانة واحدة تدعو لعبادة الله، فهو يستبعد القطيعة بينها ويؤكد على أن الكنيسة النسطورية { كانت متوائمة مع العقل العربي الذي سينتج علم الكلام في الزمن الإسلامي، منطلقاً من آخر ما انتهى إليه البحث اللاهوتي في الشام والعراق، لذلك طرح المتكلمون الأوائل (الفلاسفة) في القرن الأول الهجري، قضية الجبر والإختيار، لأن آخر نظرية كبرى في اللاهوت المسيحي كانت (وحدة الإرادة الإلهية) أو المذهب المينوثولي..}. ولأن العجز عن مواجهة الفكر بالفكر، مسألة قديمة في تاريخ التشدد الديني، فقد قُتل آباء الكلام المسلمين الأربعة في القرن الأول الهجري- كما يقول زيدان- واحد لأنه يقول بالجبر، وآخر لأنه يقول بالإختيار.( حديث زيدان في المركز الثقافي لاتحاد الأطباء العرب في القاهرة).
إن تاريخ العنف قديم، لكن أي عنف برأي زيدان ينتهي بانتهاء أسبابه، إلا العنف الديني فإنه لا ينتهي، وما منع كتابه (اللاهوت العربي) إلا صورة لهذا العنف، وفي غياب السياسة الرشيدة، ونهج نظام الإخوان الطارد لحرية الفكر، لا نستطيع أن نتوقع إلا الأسوأ. ويبدو إن الأمر لا يتعلق بالدين، وإنما بالسياسة، سياسة الإخوان المسلمين، من جهة، وسياسة مجمع البحوث في السيطرة على مسار الفكر، وبين هذا وذاك يسعى النظام الجديد لأخونة الأزهر بالتدريج. هنا يتساءل رئيس اتحاد كتاب مصر، محمد سلماوي: إن الدعوى حُركت ضد زيدان في العام 2010، فلماذا فُتح التحقيق من جديد؟
الجواب ذو شقّين سياسي وفكري، فالسياسي يتعلق بمواقف المؤلف من قادة الحكم الجديد، واستشرافه لما سيكون عليه حال مصر في عهدهم من بؤس وفساد، ما سبب لهم صداعاً مزمناً، وبما أن شخصية زيدان ليس من السهل التطاول عليها، إذاً لابد لهم من البحث عن تبرير ديني للحد من تأثيرها، وهكذا فعلوا ولكن لن ينجحوا. ولتأكيد الجانب السياسي نحتاج لمراجعة بعض مقالات الكاتب الإسبوعية في جريدة (المصري اليوم) التي أثارت استياء النظام، فتحت عنوان : الأسئلة التأسيسية 2/7، بتاريخ 2/5/12، يقول: {ماذا سيكون حال مصر، حين تقوم بها دولة دينية؟.. لن يحدث، فيما أرى، انقلاب درامى فى الواقع، لأن laquo;الإخوانraquo; أمهر من القيام بذلك. وإنما سيجرى الأمر تدريجياً على النحو التالى: توالى الرسائل السياسية المطمئنة لعموم الناس، خصوصاً الأقباط منهم والمعارضين للإسلام السياسى.. تتالى هجرة المستنيرين من مصر،لاستشعارهم خطورة الأيام المقبلة.. تسلل laquo;الإسلاميينraquo; إلى المناصب العامة لإحكام القبضة على البلاد.. تحوُّل المتحولين دوماً إلى مشايعة النظام الجديد، ولا سيما أولئك الذين لا يرون بأساً فى التعامى وقبول الإهانات من أجل البقاء فى المناصب.. انزواء الفنون.. المعارضة الاجتماعية الصامتة للنظام الجديد وتسامح السلطة الحاكمة مع المعارضين فى الشهور المقبلة..}.
وبعد هذه المرحلة laquo;الانتقاليةraquo; سوف يطلُّ الهولُ علينا، وعلى الأجيال القادمة، وينعدم الأمل فى ثورة مصرية أخرى لتصحيح الأحوال.. فإنا لله وإنا إليه راجعون}.
ومن الجدير بالذكر إن يوسف زيدان كان قد تمنى أن يخصص العام 2012، للحديث عن المعرفة فقط، لكن سوء الأحوال في البلاد واستشراء الفساد، اضطره ليكتب في السياسة من جديد. في مقاله: خروجاً عن السياق.. النداء الأخير لإنقاذ الأسكندرية - المصري اليوم، 18-07-12)، يقول :
{ إن عمليات سكب الزيت ليلاً فى الماء، بالمعنى المجازى، يمكن حصرها أو الإشارة لبعضها عبر ظواهر من مثل: تفويتِ فرص ملاحقة الفاسدين بالتفاوت المريع فى سير عمليات المحاكمة وفى الأحكام الصادرة. التهاونِ غير المفهوم مع أولئك المنحرفين من المخالفين لقانون المبانى بالتعلية أو البناء بغير تصريح.. إن الفاعلين لمثل هذه الأعمال إنما يسكبون الزيت فى مجرى الأحداث العامة، ولن يستقيم الحالُ المصرىُّ إلا بتعقُّب هؤلاء والكشف عن تدابيرهم الليلية.} ويشير زيدان إلى أنه كتب هذه الكلمات سابقاً، قبل الإنهيار المروع لعمارة مخالفة في منطقة المنشية بالإسكندرية، الذي أودى بحياة عدد كبير من الناس. بالإضافة إلى ذلك، يذكّر زيدان بمقالاته السابقة: النداء الأخير لإنقاذ مكتبة الإسكندرية، والسيف والخنجر في مسار مرسي والعسكر.
هذا بعض ما يمكن ذكره عن الجانب السياسي، فماذا عن الجانب الفكري، مالذي يؤرق مجلس البحوث، وفي خلفيته إرادة الإخوان، من منطق زيدان؟
الجواب هو هو في كل قضية تطال حرية الفكر، إنه الإصرار على إعمال العقل، وفي هذا يقول مؤلف اللاهوت العربي، وكتب كثيرة فاقت الأربعة والخمسين منذ عزازيل، في الفلسفة والتصوف والتاريخ والرواية، وغير ذلك، يقول متتبعاً ما كتبه ابن خلدون، فينقل عنه ما معناه : { إذا قيل لنا إن عدد اليهود الذين هربوا من مصر كان خمسمئة ألف، فإن ذلك يقتضي أن يكون وراءهم من جند الفرعون ضعف عددهم، فهل كان قصر الفرعون فيه هذا العدد، وكم من الجند كان يحرس حدود البلاد، وكم منهم كان في المواقع البعيدة، وكم كان عدد سكان مصر ليخرج منهم كل هذا العدد؟ إذاً نستخلص إن الخبر غير صحيح }. وفي السياق نفسه من إعمال العقل، يشرح زيدان كيف دعاه ابن سينا إلى الإهتمام بالتراث، بعد أن كان منشغلاً بفلسفة نيتشه وهيجل، راح يقلّب في صفحات كتاب (القانون في الطب) فقرأ نصاً لابن سينا عن مرض الجنون السوداوي، يقول فيه: { قد زعم البعض إن هذا المرض إنما يقع عن الجِّن، ونحن من حيث نتعلم الطب لا يعنينا إن كان ذلك عن جِّن أو غير جِّن، وإنما نبحث في سببه القريب}، ويتوقف أيضاً عند نصٍّ لابن النفيس يتعلق بنظريته في الرؤية، التي يعتبرها أهم منجزاته، فينقل لنا سطوراً من كتابه (المهذب في الكحل المجرب - الفصل الأول)، يقول فيها: { يعتبر إدراك الإنسان للأشياء التي يراها هو أساس الرؤية، وعندنا رأيان: الأول، إن شعاعاً يخرج من العين فيقع على الأشياء فيجعلنا نرى، وهذا واضح البطلان. الرأي الثاني إن الشعاع ينعكس على الشيئ فينتقل إلى العين، وهذا رأي مهم لكنه غير دقيق، لأننا لا نرى في حالة الذهول، مع وجود الشعاع، بينما نرى في النوم بدون أن يكون هناك شعاع من الأشياء} (لقاء مع منى الشاذلي) ومن هذه النفائس، أكتشف زيدان عزلتنا عن التراث، فدخل عالمه منقِبّاً ومصححاً، فأهدانا فكراً راقياً وأدباً مؤسساً على المعرفة، فتح أبواباً عدّة فدخل منها من ينشدون العلم والنظرة المتعقلة للتاريخ، وهو يجتهد ما استطاع ليحول دون إغلاق هذه الأبواب، لكنه على خلاف بطل روايته عزازيل، الراهب هيبا الذي تمنى أن يكون كشجرة وارفة الظلال، غير مثمرة، فلا تُرمى بالحجارة، وإنما تهواها القلوب لظلها، هو شاء أن يمنح ثمار فكره للباحثين عن المعرفة، ولم يخشَ حجارة الجهّال.
في القسم الثاني من هذا المقال سيكون لنا موعد مع يوسف زيدان وحديث له عن الحكمة المؤنثة، فتحية شكر له لما أهداه لنساء العالم، وكل التضامن معه ليواصل رفد الثقافة العربية والعالمية، بجديده المتميز.
التعليقات