{.. في أول المسار استوقفتنى أمورٌ، منها أن تماثيل الرجال والنساء صِنوان، وأن الإلهات الواهبات كثيرات. فشككتُ فيما تعلّمته فى الصغر، وسألتُ الكاهنة المرشدة عن السِّرِّ فى رسم النساء مساوياتٍ للرجال، وهنَّ المخلوقاتُ من ضلع الرجل الأعوج، وهُنَّ الناقصات؟ فصرختْ فى البهو بصوتٍ سحيق القدم، قائلةً بقلبٍ يلتاع : أَوَليس الرجل مخلوقاً من رحم النساء الموصومات بالنقص، فكيف يُقامُ البنيانُ بالعكس ويتقدَّمُ القدمُ على الرأس. وما الذكورة والأنوثة إلا صنوان، وبغياب أحدهما لا يكون الإنسان، فلا تسمع لمن استهان واستعلى بالبطلان حيناً ثم هان. . } ( الحكمة المؤنثة ndash; استعادة الفجر الفائت بذكر الربة ماعت 4/7- يوسف زيدان- جريدة المصري اليوم )
في سباعيتة (الحكمة مؤنثة)، قدم الدكتور يوسف زيدان جرعة معنوية للنساء، هنَّ في أشدّ الحاجة إليها في زمن الإنهيارات وانقلاب الثورات على شعوبها، وعودة الإستبداد في رداء الإخوان، سلسلة مقالات أوضح مضمونها في حديثه إلى الإعلامية هالة سرحان، بقوله:{ .. لا توجد حضارة كبرى إلا وبدأت بتقديس الأنثى، كل المصادر العربية في الأصل مؤنثة ؛ الحكمة،المعرفة ، الوطنية، والعبادة .. ولكن ليس هناك وجود مادي لعشتار أو إسِّت (إيزيس)، وإنما كونتهما الصورة الجمعية أو الأساطير (الميثولوجيا) لتعبر عن ذاتها، الزمن التأسيسي للحكمة والأصول الأولى للحضارة زمن مؤنث، وليس صدفة إن مصر القديمة عبدت إسِّت، واليونان عبدت أرتميس، وبابل عبدت عشتار ثم إنانا، وسومر عبدت أنخيرساش.. }. ويضيف زيدان في مقارنة ذكية وطريفة بين حكم النساء وحكم الرجال، فيقول: { .. وكان هناك ملكات لم يأتين بانقلاب عسكري، أو بتكليف من المتنحي !! نعم، سميراميس، وزنوبيا الملكة الهائلة في القرن الثالث للميلاد، وكليوباترا، وقبلها سبع كليوباترات.. تلك كانت أزمنة سلام، أزمنة الحكمة المؤنثة..}.
الملكات الحكيمات حقيقة، وقد أشار القرآن الكريم إلى إحداهنّ، بلقيس ملكة سبأ، التي حذرت قومها من بطش سليمان، حين ألقى عليها الهدهد كتابه النذير، كما ورد في الآية 34 من سورة النمل، فقالت : { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعِّزة أهلها أذِّلة وكذلك يفعلون }، لكن الآلهة المؤنثة كانت نتاج ضمير مسالم أبدع في صنع السلام.
وفي إطلالة زيدان على شاطئ الإسكندرية، في هدأة الليل، يتراءى له نور العقول العُلوية العشرة، ويقترب ممن سمّاه قدماء الفلاسفة ب (العقل الفعّال في لإنسانية)، ويثق بأنه سيبدد حيرته ويجيبه على كل سؤال، فهو الذي منه {.. تفيض نوادر الأفكار وفرائد المفهومات، أحياناً على عقول الناس، سأله : { ما سرُّ الجوهر الإنسانى؟ .. فأجاب: الأمومةُ أصلُ هذا السرِّ، والتجلِّى الأتمُّ له، يكون فى الأنوثة التى منها الذكورة. لكن الجوهر الإنسانى انطمر أصله تحت غبارٍ أهالته القرون الغابرة، حين صَخَبَ الغلمانُ وهم غافلون عن أن الأنوثة والذكورة صِنوان ..} ( الحكمة المؤنثة ndash; ترانيم إسِّت 1/7).
ويزيد العقل من فيضه فيحدث زيدان عن ( إسِّت) وقد عرفها السابقون بهذا الإسم، لكن المؤرخين أخطأوا في لفظه فدعوها إيزيس، {عرف المصريون القدماء ما لها من قدر، أعطوا لها التقديس فمنحتهم السمّو .. للنساء نصيب من جوهر الإنسان، وللرجال نصيب، فكل امرأة هي (السِت) لأنها في الأرض صورة quot;إسِّتquot; المستولية على السماء ..} ويمضي صاحب الفيض المعرفي متدفقاً في حكاياته عن الأنثى السامية، فيقول:
{ .. quot;إسِّتquot;.. بأسىً وحنوٍّ تنظر من عليائها بعينٍ دامعةٍ فترى النساء يرتدين ثوباً صنعته أوهامُ الرجال، فتحزن من أجل ذلك الذكر الذى فقد أنثاه، مع أنها غاية مطلبه وكل مُناه، ولولاه ولولاها ما وقع المعنى ولا تحقَّقتِ الحياة. السعىُ البائس للإنسان أنساه ما كان فى زمنٍ قديم، حنونٍ، فظن أن القسوة والسلاح يحققان الأمان، وما الأمنُ، إلا ما يفيض على البشر من جوهر الإنسان.. } (المصدر السابق).
تلك الأخبار كان لها فعل الشجن في قلب مقلِّب التراث، وناثر الذهب في ثناياه، تناغم مع ألحانه وراح يشدو { ..بأغنيات قديمة كانت مقدسة .. من زمنٌ مصرىٌّ بديعٌ لم يعرف حرباً باسم الإله، أو عنفاً لإعلاء معتقدٍ } (المصدر السابق) ولعل تلك الترانيم جلبت لنفس يوسف زيدان سكينة وإلهاماً لم يعد يجدهما في مصر اليوم تحت عباءة الإخوان، ففي حديثه إلى صحيفة الشرق الأوسط، بعد مرور شهر على استدعائه أمام نيابة أمن الدولة للتحقيق معه بتهم تفتقر إلى أسس سليمة، وصف الحالة التي يعيشها الناس بقوله : { نحن نعيش ما سماه أفلاطون laquo;أسطورة الكهفraquo; حيث افترض أن جماعة من الناس قضوا أعمارهم جالسين في كهف، متسلسلين، ووجوههم إلى داخل الكهف. وكانت خلفهم نار يتراقص لهبها، فتتراقص الخيالات على جدران الكهف، فيظن هؤلاء الناظرون أن الخيالات هي الحقائق.. وفي لحظة، انكسرت قيودهم فخرجوا إلى ضوء النهار ورأوا الأشياء على ضوء الشمس، فآلمتهم عيونهم فترة ثم اعتادوا على الرؤية الحقة، وعرفوا أن ما كان بالكهف هو خيالات وأوهام وظنون.. وإنني أرجو ألا تطول الفترة اللازمة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر والبلاد العربية، حتى تعتاد أعينهم على رؤية الحقائق بعد عشرات السنين التي شاهدوا فيها الخيالات في كهف استتارهم، فيتخلصون من الأوهام التي عاشوا عليها عندما كانوا بالجحور... } ( داليا عاصم ndash; 10-03-13).
أجمل ما في أدب زيدان انه يأخذنا إلى دنياه في مصر القديمة ويتركنا بلا خيار، لنستطلع آفاقها ونتيه في تضاريس مدنيتها العامرة بقداسة النساء، ثم يحسن الربط بين إشراقات الماضي، وغروب الحاضر، فبعد أن أوحى له العقل الفعّال بزيارة المتحف في ميدان التحرير، ليرتاح من هول ماجرى للثورة والثوار على يد الداعي والمرزبان، توقف مع الكاهنة المرشدة، ليتمعن في صورة منقوشة على رأس الفرعون، قالت له إنها آلهه العدالة (ماعت)، فتعجب سائلاً : { هل هي التي يرفع إسمها اليوم سكان المجلس (البرلمان) }؟ فقالت: { بل هي أعلى من وعيهم القاصر الذي استعجل بعدما ادّعى ودعا الجهّال للجمع بين أمرين لا يجتمعان، لأنهم يعلمون صعوبة التفرقة والإدراك على أهل الإلتباس، الذين هم معظم الناس، ومن هذا الباب، ادّعى غيرهم ودعوا الظلام النور}، تحير زيدان من جوابها، فسألها: { وما الأمران اللذان لا يجتمعان؟ فقالت له: الحرية والعدالة، فالعدالة بالمعنى الأصلي لا إسم لها غير quot;ماعتquot; .. } (استعادة الفجر الفائت، مصدر سابق).
وقبل أن يعرف زيدان خبر( ماعت) ومجد عدالتها، كان قد لخّص في لحظة صفاء نادر، أحداث يوم حزين من أيام الثورة، وكيف تحولت أحلام الثوار إلى مأدبة تقاسم ثمارها قادة الجيش والإخوان وبينهم بقايا النظام، يقول: {..تقدَّم الناسُ صاخبين، مؤكدين للملأ أنه من حَقِّ العصافير إزعاج النائمين على السرير، وأن إسقاط الآيل إلى الانهيار حقٌّ مشروع، وأن الإناء الذى يغلى بنيران الغضب رَشَح، فأرسل الفاسدُ للثائرين غلمانه، ودفع نحوهم كل فئرانه، فما ارتاع الثائرون بل تجرَّأوا على الطلب، وراحوا إلى حيث البنادق المصوَّبة نحوهم، بنحورهم، وقذفوا فى وجه الطلقات دماءهم... وفى الساعة الأولى بعد الغروب تدافعت الحشودُ فَرحةً بالتنحِّى المعلن.. ونسى الناسُ لوهلةٍ، أن النقاهةَ لازمة بعد طول المرض، فاستعجلوا الفرح بالشفاء وطلبوا المرح. فخرج عليهم المهرِّجُ القديم وقد ارتدى الزِّىَّ الجديد ..} (المصدر السابق).
ويضيف زيدان بأن داعٍ ظهر فجأة بعد منتصف النهار، وحوله ملتحون، اعتلى منصة العِظات، وأشار على الثوار بأن ليس للعباد إلا المعاد، وزاد فقال:
{..واعلموا أن درء مفاسد الفن البديع، أجدى من جلب المنافع بالعصيان المريع. وتيَّقنوا من أن الحق الوحيد، هو الذى أقول، ولا بأس من بعد ذلك إذا فرَّ الفلول قبل سداد دية المقتول. وقد أتى أيها الناس وقتُ تزويج العروس بعدما أتقنتِ الواقفةُ الجلوس، وتأدَّبت الناشز، فليستعد كُل الخراف والماعز لزفافٍ قد تأجَّل، وعلى راكبٍ للأهوال أن يترجَّل، فقد انزاح عن المجاهدين هَمُّ الكفاح، وراح الذى راح، فَلْيرتَحِ الآن العابرون بالشوارع، من تشويش تزاويق الثوار..} (المصدر السلبق).
ولعلني استغرقت كثيراً بهموم الحاضر، وابتعدت عن ممالك قداسة الأنثى، التي أراد لها المحتفى بأدبه وروائعه، أن تكون ملاذاً للنساء والرجال ممن يهمهم إعلاء قيمة الإنسان، ايّاً كان جنسه، ولم يكن مبالغاً في حديثه عن ينابيع الحكمة في فكر الأقدمين، وما ازدانت به من رموز أنثوية، فالشواهد من الآثار كانت تستحث يقينه، فسار إلى {مكان كان فيما سبق مقدساً، هو معبد الربة حتحور فى البلدة المسماة اليومquot;دندرةquot;}( الحكمة المؤنثة- هرج الدهور ..3/7) فتجلى له العقل الفعّال، وأفاده من وحي الدهور بأن قدماء مصر عرفوا ما يوازي قصة ابتداء الخلق، فقال :
{..إن للأكوان إلهاً أول متعالياً اسمه المحتجب، أو بحسب اللسان القديم يُنطق اسمه laquo;آمونraquo; الذى تحوَّر اسمه فى صيغٍ كثيرة بحسب اختلاف اللغات، بين آمن وأَمِن وإمون وآمين، وهى أسماءٌ عديدةٌ تعنى جميعُها المعنى الأول للاسم: المحتجب.. وفسَّروا سرَّ احتجابه بأنه بعدما أمر laquo;خنومraquo; المسمى لاحقاً laquo;خرَّاط البناتraquo; بتخليق البشر من الطين والحمأ المسنون، وبعدما عاش بينهم فَرِحاً بهم لأنهم كمثل أبنائه المحبوبين، أهداهم إلهةَ السماء الحانية quot;حتحورquot;... وقد وردت سيرتها أول مرةٍ فى لوح laquo;نارمرraquo; فدلَّ ذلك على عراقة حضورها فى وعى المصريين القدماء الذين مهَّدوا للناس سبل الرُّقى، وأدركوا أن الطبيعة الواهبة لن تكون إلا مؤنثة، ولا يمكن أن تعبِّر بالرمز عنها إلا المرأةُ الأم..} (المصدر السابق).
ومن حتحور آلهة التحنان، إلى حتشبسوت، الملكة المتألهة، وكان زيدان قد توسل لصاحب الفيض أن ينعم عليه بلقاء معها فأرشده بأن يشحذ الخيال، ويشدّ الرحال إلى الأقصر ثم يعبر إلى البر الغربي، فتمثلت له في حديقة المعبد الغنّاء، وفي حضرة الجدة الجامعة بين اللاهوت والناسوت، راح يتأملها وهي جالسة {..بين الأشجار الفواحة بالعطور، وصدرها العارى المكشوف بلا سفور، وبريق عينيها اللامعتين ببريق البهجة وعميق الأحزان.. سكنتُ أمامها والتزمت الصَّمْت الواجب لتوقير السَّمْت، إلى أن سألتنى برفق الأمهات عما أريد، فسألتها عما أرى حولى من جمالٍ ممزوج بالجلال.قالت: هذا نتاجُ امتزاج اللاهوت بالناسوت... أما هذه الأشجار التى ترى، فقد جلبتُها من الأرض البعيدة التى يسكنها السودان من الناس والأحباش.. لأننى رأيتُ فى حرب الذكور خسارة، فأخذت قومى إلى طرق الرفاه والتجارة .. وأما كشفى لصدرى فهذا ديدنُ الأمهات، المرضعات، من قبل ظهور الجاهلين وإسرافهم فى تسمية الأعضاء عَوْرات، تعميةً عما فى نفوس المرضى من العَوْرات والآفات، وفاتهم التداوى من أدوائهم العضال فرفعوا على الأمومة رايات القتال وتباهوا بكل سَفَّاحٍ قتَّال..ولما جاءت للحكم أسرتى السابعة عشرة، كانت للنساء مكانةٌ مستمدةٌ من تقديس الربات، وعلى ذلك نشأت والدتى laquo;أحموساraquo; وأنشأتنى... غير أن رجالنا كانوا يحاربون، فيفقدون الحسَّ المقدَّس رويداً، ورويداً يتخفَّفون من تبجيل الإناث، فيختلط عقلهم ويلتاث... } ( الحكمة المؤنثة- اللاهوت والناسوت 5/7).
احتار زيدان بأخبار لعقل الفعّال، كيف له أن يجمع كل تلك الصور الباهرة من عهود زاهرة، يتجلّى ويغيب، يتجسد كالأمل حين يحكي عن عبق الدهور، لكنه ما يلبث أن يثير غيوم الحزن حين يسترجع أنين صاحبات العقول،{ .. رأيته يذكر ما يثير الأسى... انفعلتُ بما قال وأردتُ التفصيل فى خبر المرأة البهية التى قُتلت فى الإسكندرية، فقال بإجمالٍ إنها هيباتيا، السامية، الفاضلةُ، الفاصلة بين عصري النور وزمن الظلام. وهى نتاجُ علومٍ عاشت قروناً حتى استطاعت صياغة جوهره الفريد، فلما أهدر البؤساء هذا الجوهر وأطفأوا المصباح، بقيت الإنسانية قروناً تعسُّ فى الظلام .. } ( الحكمة المؤنثة- هيباتيا الفاضلة 2/7).
ويضيف راصد الحكمة المؤنثة في سفره الكاشف لزيف المدعّين بنقص عقول النساء، فينقل لنا ما أفاض به العقل السامي، سأله كيف زعم الممترون أنها ساحرة ومشعوذة؟ { .. ثم أضرموا فيها النيران وهى حية، وأحرقت ذكراها كل قلبٍ سليم وعقلٍ مستقيم. فقال: إجابةً على هذا الكلام: هى امرأةٌ والنساء جميعهن ساحراتٌ على اختلافٍ بينهنَّ فى سحر الأنوثة الفتَّان الفتَّاك، وكانت معشوقتك laquo;هيباتياraquo; تبلغ من السحر الأنثوى غاية الغايات، ولكن سحر العقل الوقور كان يحوطها أيضاً ويذهب معها حيثما ذهبت، فتسبى الألباب بالسحرين السرمدى والبرَّاق. أما الدجلُ والشعوذة، فهى تهمةُ الدَّجَّالين المشعوذين يلصقونها بمن يشعرون أمامه بالضآلة وهوان الذات.. } (المصدر السابق)
ويختم زيدان قصة هيباتيا، هبة العلم، التي حارت بحركة الأفلاك، فيشير إلى أنها أرادت أن تكمل ما بدأه أريستارخوس الإسكندري، في نظريته عن حركة الأرض مع بقية الأجرام السماوية، { فانهمكت في الأمر حتى كادت أن تتمه، لولا قتلها المهووسون فتأخَّر على البشرية هذا الاكتشافُ زمناً طويلاً، حتى نهضت أوروبا وقال quot;كوبرنيكوسquot; مقالته عن مركزية الشمس فى المجموعة الفلكية التى تدور حولها الكواكب وهذه الأرض، فلا ثمة مركزية للإنسان ولا معنى لما اعتقده أهل الظنون من أن الرجل هو صورة الله.. }(المصدر السابق).
تلك كانت سيرة الآلام من هيباتيا، فليرحل الخيال بعيداً ليلقى كليوباترا في زورقها الرشيق، ترنو للضفاف الحانية، تهدي بسمتها للتائهين بحسنها، وتروي لهم حكايات عن مجدها، يخبرنا زيدان كيف رآها : {.. قامتْ فتعالت قامتُها إلى النجوم العوالى، ثم أقبلتْ يرفُّ ثوبُها الحريرىُّ حول خصرها وساقيها، حتى صارت منى قاب خطوتين أو أدنى، وقبالتى جلست.. نظرتْ فى قلب عينى نظرةَ صفاء، فأسالت فى البحر روحى وكاد الهواءُ يخلص إلى الهواء .. قالت: فلما مات أبي كنتُ الكبرى بين بناته والبنين، تملَّكتُ مكانه وأثرتُ بذلك حفيظة سكان الخيام المجاورة، الذين يرون الصحراء شاسعةً ولا يجوز أن يحكمها إلا الرجال. فاسترضيتهم بإجلاس أخى الصغير ذى الأعوام الاثنى عشر، على العرش إلى جوارى، وجعلته معى ملكاً متوَّجاً ..} (الحكمة المؤنثة- هيمان كليوباترا أم هيمنة العسكر 6/7). ويلخص لنا زيدان ما أفادته به من حوادث التاريخ في عهدها، مشيرةً إلى مطامع أخيها بعقله الصغير، وكيف اجتمع حوله أعضاء مجلس الشيوخ، والعسكر، والأغراب من الأعراب، ليسلبوها الحكم، وهي الملكة الرشيدة، فاستعانت عليه بيوليوس قيصر، معتقدة بأنه هدية الإله آمون، ومنه أنجبت ولدها { .. وعلى ذلك استقام الأمر حيناً فعدت للإشتغال بالمعرفة والقداسة إلى حين..}، لكن الهدوء لا يدوم مع استشراء غيرة الرجال من حكم النساء، ولم تنجح كليوباترا في رهانها على العسكر، وبيأس تقول: {.. عاودت الكرَّة الخاطئة واستعنتُ على العسكر بالعسكر. ولما مات يوليوس قيصر ارتبطتُ بعسكرىٍّ آخر هو quot;ماركوس أنطونيوسquot; فنازعه عسكرىٌّ آخر هو quot;أوكتافيوسquot; وجرت من جديد حروبٌ كشفت لى أن quot;النظامquot; العسكرى واحد، مهما اختلفت الأسماء والشخوص.. رأيتُ العسكرية تطيح بموروث الأنثى المقدسة التى ابتدأت بها الحضاراتُ، ورأيتُ أن الهيَمان فى أفق الإنسانية السامية لن يتيسَّر مع هيمنة العسكر.. وسأصبر على ما جلبتُ لنفسى بسبب ظنى أن السيف والقلم قد يتآلفان ..} (المصدر السابق).
من هنا، ومرة أخرى يلتقي الماضي بالحاضر في لغة يوسف زيدان، فعندما كتب سباعيته (بين الثاني والتاسع من مايس- مايو /12)،كان المجلس العسكري يحكم مصر، ويصدر الإعلانات والقرارات، والناس يرقبون بيقين بأنه سيجلس لأمد بعيد، لكن الرئيس مرسي جاء بحقيبة الإخوان في حزيران - يونيو، فتوارى العسكر بعد حين، فهل سيطول ابتعاده، وقد عاد الحديث بأن الجيش هو المغيث من بؤس الحال، وماذا سيقول زيدان؟
ولنتوقف أيضاً عند قاموسquot;الحكمة المؤنثةquot;، ونقرأ الفصل السابع منه وهو بعنوان: اغتراب quot;تيquot; وغربة quot;نفرتيتيquot;، لن نجد الأديب السائح في بحار التاريخ يجوب في ربوع مصر، وإنما في بلاد الألمان، حيث ترقد الملكة الجميلة نفرتيتي في متحف برلين، وقد زارها فحكت له الكثير عما شغل بالها من صراع الذكور المتألهين، ومنهم كان زوجها الذي {..كفَّر كل الديانات وأراد أن يطوي عبادة رب العالمينquot;آمينquot;، فحاول الكهنة ترويض جموحه، وأفهموه إن في اختلاف الأديان رحمة .. فما سمع لهم .. وأسقط كل الآلهة، وتعالى فوق ماعت (آلهة العدالة).. فصاح: قد تبيَّن الرشد الآتونى من الغىِّ التعدُّدى، ولن يُعبد بعد اليوم فى الأرض إلا laquo;آتونraquo; الذى هو على الحقيقة أنا quot;إخناتونquot; ..} (المصدر السابق). وتزيد نفرتيتي الحكيمة من أخبارها، فتشكو لزيدان ما أصاب البلاد من دمار جعلها تختار العزلة في معبد، مودعة زوجها وأطفالها، وعن ذلك تقول:
{ .. امتلأت الديار رُعباً، وانهار النظام .. وتشوَّهت صورتنا وكل التماثيل، وفى عموم البلاد جرى التدميرُ وتدهورتِ الأحوالُ مع صراع الأديان الذى به دوماً تتدهور الأحوال، فلم يبق للبلاد مخرج إلا بأن يتنحَّى عن الحياة laquo;توت عنخ آمونraquo; ابن laquo;إخناتونraquo; من زوجته الأخرى، فكان رحيله عن هذه الحياة أو ترحيله، وهو بعدُ صغير. بعدما عهد بالأمر إلى مجلس العسكر الذين قادهم laquo;حور محبraquo; فأعاد حين أراد الأمن بربوع البلاد، وهدأتْ أرجاءُ طيبة وبقية الأنحاء، وما عادت المظاهرات تخرج إلى الميادين.. ولأن العسكريين لا يرثهم إلا العسكريون، فقد تولى حكم مصر من بعد حور محب، زميله العسكرى laquo;رعمسيسraquo; الذى تنطقونه رمسيس ..} ( المصدر السابق).
ولعلّ فيما قالته الملكة، يصلح جواباً من زيدان عن ظنوننا بشأن القائمين الحقيقيين على الأمور، فقد أخبرتنا بأن رعمسيس الثاني (الحفيد) جلس على العرش سبعة وستين عاماً، ثم سكتت ولم تضيف، ولكن ماذا عن دولة الإخوان، أم إن العسكر من ورائها يحكمون؟
وبعد فالحديث عن قداسة الأنثى يطول { .. ولولا ضيقُ الوقت والصدور، والميلُ العام إلى الفتك بكل ناطقٍ بحكمة الدهور، ناهيك عن غلبةُ الهَرَجُ وتراثه الممتد فينا عبر عصور، لكنتُ قد استكملت تدوين ما فاض من العقل الفعّال الذى فسَّرَ وأفاض (هرج الدهور .. 3/7).
كلمة أخيرة أعتذر بها عن الإطالة، وأستبق بها ما قد تستدعيه مقالتي من ملاحظات، تقول : مادامت الحكمة تتمثل بالنساء، وإن الحضارات ابتدأت بقداستهن، فلماذا لم تنهض المرأة في بلداننا منذ قرون، وجوابي عند راوي الحديث ( أبي بَكرَة، من أعيان البصرة) الذي سكت عنه خمسة وعشرين عاماً، ثم استفاق وتذكره حين احتاج إلى مضمونه، أيام حرب الجمل (36 هجرية)، والله أعلم ، والحديث كما نقله البخاري : {لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة}، وإن صدق أبو بَكرَة فإن جميع الطغاة مفلحون، لأنهم فقط رجال، والسلام.
[email protected]
التعليقات