رائع أن تنشد الحرية، لكن الأروع أن تفجر الحرية فيك ينابيع إبداع خلاق، وعظيم أن تسلك طريق الديموقراطية، لكن الأعظم أن تستكمل مقومات وشروط تفعيل آلياتها، لكي تصعد بها على مدارج الحضارة حتى ذراها.
تتأسس فكرة الديموقراطية على مبدأين أساسيين، أولهما أنه من حق الأفراد والشعوب أن تقرر لنفسها ماذا تريد وإلى أين تحب أن تتجه، والثاني أن رأي الكثرة أكثر اقتراباً للصواب من رأي الأقلية أو الفرد الواحد، وهذا صحيح وإن لم يكن بصورة مطلقة، فهذا وحده لا يكفي لتحقيق آمال شعب يطمح لحياة أفضل، فالاختيار الجمعي سيكون موفقاً بقدر وعي الجماهير بأهدافها، ودرايتها بالمؤهلات المطلوبة فيمن توكل إليهم أمرها لتحقيق تلك الأهداف، وإلا كنا بصدد ما يمكن تسميته quot;ديموقراطية الغوغاءquot;، التي ليس من المستغرب أن تأتي بمثل من جاءت بهم صناديق اقتراع شعوب الربيع العربي، بدءاً من تونس فمصر فليبيا وتنتظر سوريا ذات المصير، ولعلنا هنا يجب أن نتذكر أن اقتراعاً ديموقراطياً مثيلاً في أثينا القديمة قد حكم على quot;سقراطquot; بالموت، واقتراعاً مثيلاً بعده في أورشليم قد حكم على quot;يسوع المسيحquot; بالصلب، وبإطلاق سراح اللص القاتل quot;باراباسquot;!!. . لا يشترط بالطبع في هذا الوعي المطلوب أن يكون بذات درجة الوضوح عند جميع أفراد الشعب، فهذا لا يتوفر عملياً حتى في أكثر الشعوب تحضراً، لكن حده الأدنى هو توافر الخطوط العامة والعريضة للوعي بما نريد والطريق لتحقيقه.
هنالك أيضاً عنصر آخر يتحتم توفره ليأتي تطبيق آليات الديموقراطية بالنتائج المرجوة، وهو ألا يكون الشعب منقسماً على ذاته بين تيارات متعارضة تمام التعارض، أي بينها وبين بعضها البعض في الاتجاه بلغة الرياضيات مائة وثمانون درجة، كما هو حادث في مصر والشرق الأوسط بعامة، حيث يوجد من ينزعون لمستقبل حداثي، ومن ينشدون العودة لنظم وعلاقات قرون طويلة خلت، فمثل تلك الشعوب التي تفتقد لتوافق عام والمنقسمة على نفسها لا يوجد في علم النظم السياسية ما يحل إشكاليتها هذه، لأن المشكلة في هذه الحالة تكون في الشعب ذاته، وليست في نظام سياسي معين، أو في طبيعة آليات اتخاذ القرارات فيه، فصناديق الاقتراع مصممة لترجيح توجه معين على جانبيه أطياف تختلف عنه بدرجات متعددة ومتدرجة، لكن درجة اختلافها لا تصل إلى حد التضاد التام، وإلا ستأتي النتائج انتصاراً لطرف وسحقاً لطرف آخر، وهي الحالة الأزمة في ذاتها، إذ يستوي هنا إن جاء النصر والهزيمة المقابلة له عن طريق العنف أو عن طريق ما عرفه أحدهم quot;بغزوة الصناديقquot;، والأوطان والشعوب المأزومة لا يمكن لها أن تدير حياتها، مهما بلغت قدسية وعدالة نظمها المظهرية أو الإجرائية.
هكذا نجد في مصر المحروسة في ظل انتصار طرف وهزيمة نقيضه نرى أن كل ما بكتاب quot;تمكين الإخوانquot; يجري الآن تنفيذه رغم علو صيحات الشجب والتنديد، وسوف يجد المصريون أنفسهم قريباً يطالبون بعودة القضاء والقانون، وقد حلت محله مجالس الحكم والصلح العرفية والشرعية، وربما بعدها سيطالبون بعودة قوات الشرطة والجيش المصري الموحد، بعد أن كانت ميليشيات الجماعات قد حلت محلهما، فالواقع أن جميع المؤسسات المصرية التي أسست قبل عهد الإخوان السعيد هي في شرعهم مؤسسات جاهلية كافرة، وينبغي تدميرها لتأسيس هيئات بدوية إخوانية مؤمنة، وليس لنا أن نتعجب إذا وجدنا الإرهابيين والقتلة الخارجين والهاربين لتوهم من السجون يتحدثون عن تطهير القضاء، رغم طرافة أن هؤلاء تحديداً هم ما يحتاج الوطن وربما الدنيا بكاملها للتطهر منهم.
نعم جماعة الإخوان ليست بذاتها الآن تنظيماً إرهابياً، فقد تخلت بالفعل ميدانياً (وليس أيديولوجياً) منذ فترة عن هذا الدور لغيرها، وكأنها قد تقاعدت لتصير الجماعة الأم لكل جماعات الإرهاب التي رضعت من لبنها ثم اشتد عودها منفردة، والحقيقة أنه ناهيك عن تصريحات المناسبات الدعائية المعسولة التي لا تخدع من يمتلك ولو عقل ذبابة، فإن الإخوان لم يخدعوا أحداً، وإن كان المغفلون دائماً يخدعون أنفسهم بأنفسهم، فأفكارهم وأيديولوجيتهم معروفة وموثقة، وانتماؤهم للفكر القطبي (نسبة لسيد قطب) معلن من قبلهم مع آيات التفاخر والاعتزاز، وكل مؤسسات الدولة وقوانينها وعلاقات ونمط الحياة المصرية المعاصرة يعلنون رفضهم لها ويرونها جاهلية، ويعني مشروعهم تغييرها واستبدالها بأخرى تنتمي لحضارة جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي، لذا من حق الإخوان الذين انتخبتهم أغلبية شعبية في أكثر من استفتاء أن يفعلوا بالدولة المصرية ما يشاءون، وإذا ما ظلت الأغلبية على تمسكها هذا بهم وتأييدها لهم، فعلى الأقلية الرافضة الخنوع أو البحث عن وطن آخر، هذه هي خلاصة القول الذي يغني عن كل قول.
هنا يظهر الخلل ليس فقط في افتقاد أحد الشروط المكملة لمفهوم الديموقراطية وهو شرط الوعي السابق ذكره، لكن أيضاً خطل السماح لأعداء الديموقراطية بالتلاعب بآلياتها وقبولهم كلاعبين في ساحتها، لكي يتولوا توظيفها بما يؤدي لتحويلها من نعمة إلى لعنة، وبدلاً من اتخاذ الديموقراطية منهج حياة في سائر العلاقات الحياتية، يستخدمونها فيما يسمى quot;ديموقراطية المَرَّة الواحدةquot;، تلك التي تصل بهم للسلطة وكفى!!
نأتي إلى ما نجازف بتسميته quot;غوغائية النخبةquot;، فمن الناحية المبدئية تعد المشاركة في الانتخابات النيابية القادمة جريمة وطنية في ظل لا شرعية الدستور والنائب العام والتهديدات للقضاء ومحاصرة المحاكم، فالمشاركة هكذا تكريس لمسيرة غير شرعية، أما سياسياً فأهل السياسة لهم اتخاذ ما يشاءون من مواقف عملية، بشرط مسئوليتهم بعدياً عن النتائج، علماً بأن مواقف سياسيينا السابقة تكاد تكون جميعها ذات نتائج وبيلة، ولعل أوضح مثال على تردي نخبنا السياسية هو ما نشهده من quot;حزب الوفدquot; صاحب التاريخ الوطني والليبرالي العريق، والذي يتوجب تغيير اسمه الآن إلى quot;حزب السيد البدويquot;، فهو انتحال لتاريخ الوفد العريق ما يتخذه من مواقف متضاربة تحتار معها إلى أين يريد هذا الحزب أن يذهب بنفسه وبمصر، وإن كان انحراف quot;حزب الوفد الجديدquot; عن مسار quot;حزب الوفد التاريخيquot; لم يبدأ من اليوم على يد quot;البدويquot;، وإنما بدأ مع فؤاد سراج الدين ذاته، فصار حزباً متوافقاً مع مرحلة شيمها التلاعب والرقص على كل الحبال.
مظاهرات الإخوان ضد القضاء المصري ليست الطمة الوحيدة على وجه كل quot;عاصر ليمونquot; سبق أن تحالف معهم أو ظن فيهم حسناً، فمن المنطقي أن نعذر عامة الناس الذين تصوروا أن الإخوان يمكن أن تكون لديهم نية العمل لصالح مصر الوطن، وأن لديهم من الكوادر من يمتلك الكفاءة والجدارة اللازمة لذلك، لكن هناك طابوراً طويلاً على رأسه أمثال عمرو حمزاوي وحمدي قنديل ومحمود سعد ووحيد عبد المجيد وسواهم كثيرون، هؤلاء لا يمكن قبول ادعائهم الجهل والانخداع، بل هو الارتزاق والدعارة السياسية لا غير. . نقول هذا ليس بكاء على اللبن المسكوب أو من قبيل التباكي على ما فات، ولكن للتحذير من السير خلف هؤلاء مرة أخرى، وعلى هؤلاء لو تمتعوا بذرة صدق أن يختفوا تماماً من أمام أعيننا، وعلينا إن لم يفعلوا أن ندير لهم ظهورنا، ولا نعود نذكرهم إلا بما يليق بتاريخهم المخجل، فمن خدعك وتاجر بمصيرك مرة، لابد وأن يفعل ذلك مرات ومرات من أجل quot;دينار أو صحن حساءquot; على حد قول نزار قباني!!
هكذا نستطيع القول أيضاً أن النخبة السياسية والإعلامية المصرية لا تنجو أيضاً من غوغائية المنهج والتفكير والسلوك، بل وربما كانت قطاعات لا بأس بها من الجماهير أكثر نضجاً في وعيها وإدراكها لمصالحها من هؤلاء الذي يتشدقون باسمها ويتاجرون بمعاناتها، بحيث يجوز القول أن quot;غوغائية النخبةquot; تعد ضلعاً جوهرياً في الهاوية التي تردينا فيها جميعاً.
التعليقات