bull; كان الحوار حول الموسيقار العظيم فاغنر يدور مع الصديق عثمان العمير ndash; الذي يعد واحداً من عُشاق الموسيقى الكلاسيكية ndash; فأبديت له رغبتي بالكتابة عن فاغنر، فقال لي: أخشى أن يكون ذلك وجبة عسيرة الهضم على بعض القراء، أو أن ما سوف تكتبه عنه يدخل في إطار الكتابة للنخبة.. فهناك من بين القراء من لا يستسيغ الموسيقى الكلاسيكية، أو الاستماع الى الأوبرا.
ولكن بعد المعايشة في عوالم الموسيقار فاغنر، تبين لي أن هناك جوانب في حياة هذا العبقري كفيلة بجعل القارئ أن يتفاعل معها بما احتوت عليه من مواقف انسانية نادرة، لا تقتضي بالضرورة الدخول الى عالم الموسيقى الكلاسيكية أو تذوق الاوبرا، إنما يكفي الوقوف على أثر ما للموسيقى من تأثير في حياة هذا الموسيقار، وبالذات في علاقاته العاطفية مع من عشقهنَّ من النساء!!.. فكانت هذه السلسلة من الحلقات.
* * *
- 1 -
bull; ما من مؤلف موسيقي ارتبطت أعماله بأحداث حياته كأعمال الموسيقار الألماني الأشهر ريتشارد فاغنر!!
علاقاته العاطفية الكثيرة.. علاقته المثيرة بـ لودفيك ملك بافاريا.. صلته المضطربة بزوجته مينا.. حبّه الكبير الغامض لـ ماتيلدا وزندونك.. زواجه الفاشل في نهاية العمر بابنة صديقه ليست.. quot;كريزماquot; الرهيبة.
ما من عملٍ موسيقي.. ما من أوبرا.. ما من سمفونية لفاجنر إلا وتسمع في أنحائها عواطفه البشرية المضطربة تعلن عن نفسها مع كل لحنٍ.. مع كل نغمٍ.. مع كل دقةٍ على الطبل - وما أكثر الطبول في أعماله - مع كل نفخةٍ في بوق.. كأنما يريد أن يصيح بأعلى صوته مخاطباً جمهوره..
quot; هذا هو أنا، بكل مزاياي، بكل عيوبي، بكل نزوات قلبي ورغباتي المشروعة والآثمة!!..quot;
تلفت قلبه إلى نداءٍ غامضٍ وهو في سن المراهقة.. فكتب يقول:
- أعتقد أنني كنت أحبّ نفسي قبل أن أحب ابنة الكونت..!! (يا إلهي).. إنني نسيت اسمها!!.. جيني؟!.. ربما.. أو لعل جيني كانت أختها.. يخيل إلي أن اسمها كان quot;أوجستاquot;.. لم أعد أذكر!!
bull; وصدّته!!.. كانت أكبر منه بعامين.. ولم يكن له مستقبل معروف.. ولم تكن تحبه.. عابثها بطريقةٍ فجّة!!.. طريقته الفجّة مع كل من عرفهم بعدها، إذا استثنينا علاقته الناعمة مع ماتيلدا وزندزنك.. فطردته من الدار.. وعاد ليقول دون حياء :
- إنها لا تستحق حبي..
bull; جملته المشهورة!!.. كان كلما فشل في حبٍ له قالها.. كان يبرر بها فشله..
- إنها لا تستحق حبّي!!
الحب والموسيقى.. لم يكن يعيش إلا في أجواء هذين الساحرين!!.. بالأوهام في كل الأوقات.. من فرط تهالكه على البنات، عزفن عنه.. وملأن حياته بالكلمات المهينة.. ولكن جملته الخالدة كانت موجودة دائماً لتغطي صفحة الإهانات السوداء..
_ إنها لا تستحق حبي!!..
ولقي مَن ظنَّ أنها تستحق حبه.. لا لشيء.. إلا لأنها استجابت لرغباته..
اسمها.. quot; مينا بلانرquot;.. لكن صديقه جوهان ينصحه:
- مينا بلانر لا تصلح لك..
- إنها تحبني يا جوهان!!
- إنها تلعب بك.. تماماً كما تلعب باليهودي الثري quot;شوابquot;..
- وعدتني أن تهجره!!.
- وهل وعدتك أن تهجر العمل المسرحي؟!.. إنها ممثلة ناجحة.. كما أنها ليست صبية غريرة.. إنها امرأة ناضجة، ولعلها تريد أن تستغل نجاحك كموسيقي لترتفع على أكتافك..
- إني أحبّها وكفى.
- تحبّها لأن هناك من يحبّها سواك.. تريد أن تخطفها منه.. هذا هو كل الأمر.. أنا أعرف طبيعتك.. أطعني يا ريتشارد.. سيحطمّك حب هذه المرأة!!
- إنها تريد الزواج!!
- أي زواج هذا؟!.. أنت كل يوم في بلد مع الفرقة الموسيقية.. وهي كل يوم في بلدٍ آخر مع فرقتها التمثيلية..
- وماذا أفعل وهي لا تريد سوى الزواج.. أمس.. وبعد أن غادرت دار اليهودي شواب، تسلّقتُ غرفتها.. وجدتني في انتظارها حين عادت.. كم كانت جميلة.. وكريمة.. أحببتها في تلك اللحظة كما لم أحب في حياتي..
- أنت تحب نفسك.. لا أكثر ولا أقل.. أحببت انتصارك على غريمك.. لم تكن تحب مينا حباً صادقاً.. كل ما في الأمر أنك سعدت بانتصارك على غريمك.. الغيرة وراء هذا الحب الأهوج.
- لا فائدة يا جوهان.. سأتزوج مينا.. أنا واثق من أنني سأكتب أروع أعمالي في كنف مينا الجميلة.
- الجميلة في نظرك أنت وحدك.
***
bull; وانكشف الغطاء عن حقيقة عواطفه بعد الزواج.. كتب لصديقه جوهان من فيينا:
- لقد مللتها بسرعة.. أتعرف لماذا؟!.. لأنها لم تعد تقاوم حبّي.. ثم.. ثم كيف لم تلاحظ يا عزيزي أنها أكبر مني بأربع سنوات؟!.. كيف لم تذكر لي هذا؟!.. كيف تركتها تسحبني من أنفي إلى محراب الزواج؟!..
bull; لم تكن مينا بلانر تصلح لفنانٍ متقلّب العواطف مثل فاغنر.. كتب ذات يوم في مذّكراته: quot; أعجب كيف كانت تؤدي أدوارها على المسرح؟!.. إنها مجرّدة من كل خيال.. لا عاطفة.. ولا تسامح.. تطاردني من غرفة إلى غرفة بغيرتها السخيفة.. وآه من الثياب الداكنة الألوان التي تفضّلها.. إنها أصلح الزوجات لتاجرٍ ثري يرتدي ربطة عنق سوداء خانقة، ويضع على عينيه نظّارة بإطار ذهبي.. أو لقسيس كنيسة.. أما موسيقار.. يا إلهي.. ما أبشع ما ارتكبت من خطأ..quot;.
bull; كان كل همّه في الهرب منها..
- تصور يا جوهان.. تريد أن ترغمني على البقاء في quot;بونquot; بأمرٍ من المحكمة.. قلت لها أن تطمئن.. فلن أستطيع أن أتحرر منها قانوناً.. ولكني على الأقل أستطيع أن أتحرر موسيقياً.. لم تفهم!!.. ماذا أفعل مع امرأة كهذه زعمت لي يوماً أنها أكثر الناس فهماً لنفسية الفنان لأنها فنانة.. هكذا قالت!!.. إنها ليست فنانة يا جوهان.. إنها حفّارة قبور!!
bull; هرب منها بألحانه وبفرقته الموسيقية إلى كل بلدٍ من بلدان أوروبا.. برلين.. باريس.. لندن.. زيوريخ.. ولكنها تابعته في إصرار.. لم تكن تحبّه.. كانت quot;تملكهquot;.. هكذا قالت له بصوتها الذي بات يكرهه كما يكره الموت:
- من قال لك أنني أتبعك حباً فيك؟!.. أنت مُلكي.. أنت زوجي ولا مفرّ لك من قبولي بجانبك.. أردت أو لم ترد..
- مينا أرجوك.. إنكِ تخنقينني.
- يا لك من طفلٍ مدلل.. وسخيف أيضاً..
- لماذا تتشبثين بي وأنتِ لا تحبّيني؟!
- وهل تحب المرأة كل ما تملك؟!.. أنتَ من بين أملاكي يا ريتشارد!!..
- أشتري نفسي منكِ بكل شيء!!
- اكتب عقداً تتنازل فيه عن كل ما تكتب من سيمفونيات وأوبرات وأغاني.. عندها فقط أعيد لك حريتك!!
- أيتها اللعينة.. سأعرف كيف أتخلص منك!!
- كيف وأنا لن أوافق على الطلاق؟!
- أنني سأُحطّم كبريائك.. النساء كثيرات.. اعلمي أيتها الدميمة هذه الأيام على علاقة بثلاث.. كلّهن أصبى منكِ وأجمل!!.. أحبهنّ إلى حد الجنون.
- هراء.. أنت تحب نفسك.. لا أكثر ولا أقل.. ولكن استمع يا ريتشارد فاجنر.. إذا علمت عن يقين أنك تخونني.. فسأقتلك!!
bull; وحين أرغمته على البقاء في quot;بونquot; كان يباعدها قدر استطاعته.. وكتب:
quot; إذا أمرضتني بجلستها الكئيبة في ثوبها الداكن.. وصمتها الذي تريد به أن تصيبني بالجنون.. هربتُ مع كلبي الأثير quot;بونيquot; إلى أقرب غابة.. الكلب هو أصدق أصدقائي الآن يا جوهان.. ولكن هل يصلح الكلب حقاً صديقاً كاملاً كما يزعم بعض أصحاب الكلاب؟!.. لا.. أريد من يثرثر.. من يستمع إلى أحزان قلبي.. إلى متاعبي مع مينا.. من يناقشني في آخر أعمالي.. بحق السماء ماذا تفعل في انجلترا؟!.. عُد يا جوهان.. قبل أن يموت صديقك من سجن الوحدة الرهيب!!..quot;
bull; كانت تلك فترة الجدب الخطيرة في حياته.. فكّرَ فعلاً في الانتحار.. وكتب:
quot; ما معنى الحياة بلا حب وبلا موسيقى؟!.. مينا اللعينة تحرمني من أن أحب.. وحرماني من الحب يحيل مخيلتي الموسيقية مزرعةً جفّت عيونها وتشققت أرضها وتوشك أن تعلن عن موتها.. صدقني لقد ماتت مخيلتي الموسيقية فعلاً.. لم أكتب حرفاً حتى الآن!!.. إن حاجتي الحقيقية هي إلى الحب.. إنه الشيء الوحيد الذي يعقد بيني وبين الحياة مصالحةً حقيقيةquot;.
***
bull; ودخلت حياته في تلك الفترة المجدبة شابةٌ حلوة صغيرة، فنانة.. quot;جوديت جوتيهquot; تنحدر من أصلاب فنانين مشهورين وكتّابٍ لامعين.. كانت تسعده بمرحها في الغابة.. ولا تمل سماعه وهو يقول لها مرحاً:
- لا تملّي حبي يا جوديت.. اغرقيني في بحر حبك يا عزيزتي.. يا عزيزتي.. يا عزيزتي.. ابقي على حبي حتى الموت.. موتي أنا!!
فالكيري كما استخدمها المخرج الأمريكي كوبولا في فيلمه: القيامة الآن
bull; ويقرر النقّاد أن فنّه في تلك الفترة الشديدة الاضطراب من حياته بين مطاردة الزوجة الشرعية، ومعابثات الفتاة العاشقة.. قد تطور تطوراً رائعاً.. الناقد quot;هوجينينquot; يقول عن هذا:
quot; رغم بغضه لممثلات المسرح بسبب مينا زوجته، فقد نبتت في ذهنه في تلك الأيام وتحت تأثير اندفاعه العاطفي في تيار المرحة quot;جوديتquot; نبتت في ذهنه أفكارُ أروع أعماله الأوبرالية..quot;
ذات ليلة وفي دار quot;جوديتquot; عزف لها quot;سوناتاquot; من مقام سي الصغير، لبتهوفن.. فلما انتهى.. قالت له:
- يمكنك يا ريتشارد أن تحقق ما عجز عنه بتهوفن..
- لا أحد يا quot;جوديquot; يحقق ما حقق العملاق المغولي.. بتهوفن لم يعجز عن شيء موسيقي قط.
- لم ينجح في العمل الأوبرالي!!
- لم يكن يحب المسرح..
- وأنت؟!.. لا زلت تكرهه من أجل مينا؟!
- لا أحد كان يحب المسرح حبي له يا جودي.. وأنا في أول الشباب أملتُ أن أغدو ممثلاً.. أحببت المسرح والشعر والموسيقى على نفس المستوى.. ولكنني فضّلت الموسيقى في النهاية.. لا يعني ذلك أنني لا أتوق إلى المسرح رغم وجود مينا!!
- فاكتب له إذن عملاً موسيقياً خالداً مثل سيمفونيتك الأخيرة..
- لقد بدأت فعلاً في التخطيط لعملٍ كهذا.. أوبرا مشتقة من أساطيرنا الجرمانية القديمة.. أنا أومن بأن الجنس الآري الجرماني هو رمز العبقرية الإنسانية!!
- لقد كتبَ quot;جديquot; الكثير عن أساطير الجرمان.. أي أسطورةٍ اخترت؟!
- أسطورة سيجفريد.. ولكنني أخشى ألا أتمّها..
- تعني أنك كتبت بعض ألحانها فعلاً؟!
- الربع الأول تقريباً.. فصلاً ونصف الفصل..
- ولماذا تخشى ألا تتمّها؟!
- لأني أخشى أن تهجريني.. عندها لن يصلح كلبي quot;بونيquot; لإشعال خيالي!!
- سأبقى بجانبك.. حتى تتم سيجفريد!!
- وبعدها؟!
- كأنك لم تعلم أن من حقّي أن أتزوج؟!
- تزوجيني..
- ستملّني عندها كما تملّ مينا.. ثم إن هذا مستحيل.. أنت متزوج..
- سأكتب لمينا العقد الذي تريده..
- ماذا؟!.. حقوق كل أعمالك السابقة والقادمة؟!.. أنت مجنون!!
- أنا أحبك..
- لا تفكر في هذا العبث..
- بل سأكتب لها اليوم..
- وأين هي؟!
- سافرت إلى تركيا مع فرقتها المسرحية.. أنا واثق من أنها ستعود على الفور لتحصل على العقد وتهبني حريتي!!
- 2 -
bull; كانت رسالته إلى quot;ميناquot; حافلة بالمهانات:
quot;عودي quot;أيتها الجميلةquot; لتحصلي على ما أردت.. عودي يا شايلوك القرن التاسع عشر لتأخذي رطل اللحم من قلبي لقاء حريتي!!.. كم أتوق إلى أن أقول لك quot;وداعاً أيتها المرأة الشيطانيةquot;.. أنا واثق من أنك ستعودين في أول عربة.. هذا إذا لم يسعدني الحظ ويغرقك أحد quot;أغواتquot; السلطان في البوسفور.. لو فعل.. لكتبت على شرفه أعظم سيمفونية.. سأسميها.. quot; موت إبليسةquot;..
في برودٍ كتبت إليه من اسطنبول:
- العرض مرفوض تماماً!!
bull; لم يحزن كثيراً.. كتب إلى صديقه جوهان:
quot; ما الفائدة حتى لو أن quot;إبليسةquot; قبلت ما عرضت عليها.. النتيجة هي أن أتزوج جوديت.. ثم أملّها كما مللت مينا.. الزواج هو عدو الفن.. بتّ أعتقد أني كالصحراء يا جوهان.. أعيش لنفسي وبنفسي.. ولا مهرب لي من حياتي هذه الدائمة العطش إلى الحب إلا بالموت..
هجرتني جوديت وأنا أكاد أنتهي من الأوبرا التي كتبتها من أجلها.. كنت قد أسميتها quot;أفراح سيجفريدquot;.. أتعرف الاسم الجديد للأوبرا.. quot;موت سيجفريدquot;..
bull; بعد النجاح المذهل الذي حققته أوبرا quot;موت سيجفريدquot; قال لصديقه جوهان الذي كان قد عاد من لندن:
- أعتقد أن quot;موت سيجفريدquot; هي آخر أعمالي يا جوهان.
- ولماذا.!.. أنت في عنفوان قوتك الموسيقية!!
- هراء.. ليس في حياتي امرأة.. تصور أنني لا أنام إلا بالمُسكّنات.. يكفي أن أرى وجه مينا.. ليطير النوم من عيني.. حين كانت quot;جوديتquot; بجانبي كنت على وفاق تام مع نفسي.. مخيّلتي الموسيقية كانت تتفجّر كل لحظة بالمذهلات.. كان اللحن يتشكل كاملاً وأنا معها.. وأقول لنفسي quot;لم يبق إلا أن أدوّنه على الورقquot;.. أما الآن فإني أجلس أمام البيانو ساعاتٍ فلا أخرج بجملةٍ موسيقيةٍ واحدة.. لقد مات سيجفريد يا جوهان!!..
***
bull; ولم يمت quot;سيجفريدquot;.. فقد كان القدر يخفي للعالم الفني أروع روائع الأعمال الأوبرالية للفنان الكبير فاجنر..
تفجّرت عبقريته من جديد حين دخلت حياته المرأة الوحيدة التي أحبّها قبل أن يحب نفسه.. وفوق ما يحب نفسه.. quot;ماتيلدا وبزندونكquot;.
***
bull; تزوج من الممثلة المسرحية quot;مينا بلانرquot;.. ثم تباغضا إلى حد تبادل أبشع السباب.. وفجأةً تصالحا..
يقول في رسالةٍ إلى صاحبه جوهان:
quot; لا تحلّق مع الخيال يا جوهان وتظن أنني وجدتُ بغيتي أخيراً في كنف مينا.. كلا يا عزيزي!!.. كل ما في الأمر أنني أعطف عليها عطفاً شديداً بسبب المرض الذي أصيبت به فجأةً.. كنا منذ أسابيع نقضي السهرة مع أسرة البارون كالرستوفن.. فأغمي عليها بعد العشاء.. فحصها الطبيب وقال أنها مريضة بالقلب.. هكذا فجأةً؟!.. في برلين عرضتها على أشهر أطباء كلية الطب.. قال لي دكتور quot;هيدونجquot; بعيداً عن سمعها:
- حياتها معلقة على انفعالٍ عنيف.. إذا تجنّبت هذا فستعيش إلى الستين على اقل تقدير.
- ماذا تعني بالانفعال العنيف يا دكتور؟!
- لا أحد يجهل يا أستاذ فاغنر أن بينك وبين السيدة مينا زوجتك خلافات كثيرة.. بل ومشاهد عاصفة.. إذا لم تضع حداً لهذه الخلافات.. وإذا لم تكفّا سوياً عن الشجار وتبادل الكلمات الكبيرة.. فستموت السيدة زوجتك في أية نوبةٍ قلبية..
bull; منذ ذلك الحادث يا جوهان وأنا أشعر بالذنب.. أنا الذي سببت لها هذه الآفة الخطيرة.. آليت على نفسي ألا أوذيها في شعورها لحظةً واحدة إذا لم أكن قادراً على إسعادها بالحب الحقيقي.. صدّقني الفرق مروّع بين الشفقة وبين الحب.. نحن الآن على وفاقٍ تام على أي حال.. خاصةً حين علمتْ أن جوديت قد تزوجت.. وأنا المسكين الذي لا يعيش إلا في أعطاف الحب.. لا أجد من أحبه ويحبني!!
bull; ووجد من تحبّه ويحبّها..
يوم الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1851 كان وزوجته في زيوريخ يحتفلان بعيد زواجهما الخامس عشر، وجاء صديقه جوهان من لندن.. بعد إنتهاء السهرة، دخلت مينا مخدعها، وجلس فاغنر إلى صديقه الحميم يفتح كلٌ منهما قلبه للآخر..
- من هو هذا الرجل الذي التهبت كفّاه من التصفيق بعد أن عزفت السوناتا الخامسة؟!
- لقد قدّمته لك يا عزيزي جوهان.. إنه من كبار التجار.. أعماله كلها في نيويورك، ولكنه يقضي نصف العام في ألمانيا.. وهو من أسرةٍ عريقةٍ أيضاً quot;أسرة وزندونكquot;
- كانت زوجته الشابة ترامقك دون حياء أمام زوجها.. وأمام زوجتك quot;ميناquot; وهذا هو الأخطر..
- أنت واهم يا جوهان quot;ماتيلدا وزندونكquot; تعشق الموسيقى لا أكثر ولا أقل.
- المهم ألا تعشق صاحب الموسيقى.
- لا.. ابعد هذا الخاطر عن ذهنك.. لا.. إنها جميلة وأنيقة.. وذات ذوقٍ فنيٍ رفيع.. بالإضافة إلى رقة إحساساتها.. إنك لا تدري مدى عشقها للموسيقى.. تحفظ عن ظهر قلب كل سوناتات بتهوفن.. وتعزف أيضاً على الكمان..
- من أين حصلت على كل هذه المعلومات عنها؟!
- منها ومن زوجها quot;أوتو وزندونكquot;..
- تعني أنك تقابلت معهما مرات عدة؟!
- أكثر من ست مرات فيما أذكر..
- وكانت مينا معك في كل تلك المقابلات؟!
- ليس في كلها.
- ريتشارد.. احذر أن تقع في هوى هذه الشابة.. إنك بهذا تقتل زوجتك!!
- لا.. لا.. إنه مجرد إعجاب فنّي متبادل.. ومينا أدركت هذا من تحفّظ ماتيلدا في حديثها معي.. ومن إقبالها الودود عليها.. أهدتها الليلة سواراً ماسياً رائعاً..
- كن حذراً يا ريتشارد.. أرجوك.. لا تكثر من مقابلة أوتو وزندونك وزوجته حتى لا يكون ذلك سبباً في التأثير على سعادتك الزوجية..
- سعادتي الزوجية؟!!
***
bull; وبدل أن يبتعد عن الشابة الجميلة الرقيقة ماتيلدا.. بالغ في التقرّب إليها وإلى زوجها.. كان أوتو وزندونك ثرياً.. الثراء الذي يسمح له باستقبال الفنانين ورجال الأدب في قصره الأنيق في زيوريخ.. رغم محاولاته الذهنية للبقاء مخلصاً على علاقته الجديدة مع زوجته مينا.. إلا أنه لم يستطع لحظةً التخلّص من خيال ماتيلدا الرقيقة الذي يراوده في الليل والنهار.. كتب إلى جوهان:
quot; سأحاول جهدي ألا أوذي مينا.. وليس معنى هذا أنني أحب quot;ماتيلداquot;.. إنه ليس ذلك اللون القديم من الحب.. إنه اندماج روحين.. إنها تفكر بطريقتي.. تحب الموسيقى بطريقتي.. إنها صفحةٌ بيضاء لم يكتب أحدٌ فيها سطراً واحداً.. إنها تحب زوجها أوتو.. وهو جديرٌ بأن يكون موضع حبها.. ولكني لا أعتقد أنه دخل حديقة قلبها السرية التي تحفظ فيها لتوأم روحها كل مباهج الفن والسعادةquot;.
bull; كان يكرر الكلمة دائماً quot;توأم روحهاquot;.. وكان يظن أنه هو ذلك التوأم.. كان يقترب من الأربعين.. أصغر من مينا بعامين.. وأكبر من quot;توأم روحهquot; بعشرين عاماً.. ورغم أن الأسرة الصغيرة غادرت زيوريخ إلى نيويورك حيث تجارة الزوج، فقد اتصلت المراسلات بينهم جميعاً.. quot;بين الأسرتينquot;.. وعلى وجه العموم.. هدايا ماتيلدا أيضاً لم تنقطع عن quot;ميناquot; العزيزة..
- لأول مرة يا ريتشارد تحسن اختيار أصدقاءك.. ماتيلدا هي أرق وأذكى وأنبل سيدة تعرفنا بها.
- يسعدني جداً يا مينا أنك تشعرين نحو ماتيلدا هذا الشعور..
- تسألني في رسالتها الأخيرة عن عملك.. لماذا لا تكتب لها عن إنتاجك الأخير.. تقول في رسالتها..quot;إنك لا تعرفين يا مينا قدر افتخاري بعزيزنا ريتشارد.. حين تعزف له إحدى الفرق السيمفونية هنا عملاً من أعماله.. سألتني ذات مرة إحدى السيدات quot; أهو انجليزي ريتشارد فاغنر هذا يا مسز وزندونكquot;.. فقلت وأنفي في السماء.. quot;إنه ألماني مثلي يا سيدتي!!
***
bull; كأنما كان لقلبه quot;قرون استشعارquot; عن بُعد.. كان يشعر في قرارة نفسه أنه سيكون أول من يكتب أسعد السطور في صفحة حياة ماتيلدا البيضاء..
في بداية عام 1852 نظّم فاجنر ثلاث حفلات، خصصها كلها لأعماله الموسيقية.. وكانت أسرة وزندونك قد عادت لتستقر في زيوريخ..
- عزيزي الأستاذ.. كيف لم تذكر لي أنك في حاجة إلى المال لسدّ نفقات الحفلات؟!.. علمت من ماتيلدا أنك تفكّر في الاستدانة.. كيف تفعل هذا وأنا في زيوريخ؟!
- لقد تكلمت في هذا مع السيدة زوجتك مصادفةً يا عزيزي أوتو.. تقابلنا على شاطىء البحيرة.. وكانت معي مينا.. هل حدّثتك في هذا؟!
- ماتيلدا لا تخفي عنّي أي شيء.. بما في ذلك إعجابها بموسيقاك وبشخصك أيضاً..
- هذا شرف لي يا أوتو..
- إنك لا تعرف ماتيلدا يا عزيزي فاغنر.. إنها مثال الرقة والود.. لا تحمل في قلبها الصغير الحنون للناس إلا كل حب.. وتريد أن تعاونك أنت ومينا على وجه الخصوص.. وثِق بأنني لا أقلّ عنها رغبةً في ذلك.. ماذا لو تركت مشكلة نفقات الحفلات الثلاث لي فأديرها لك على الوجه المطلوب؟!
- لا أحب أن أستدين من الأصدقاء يا عزيزي أوتو..
- إنه ليس ديناً.. لنقل أنه استثمار مضمون الأرباح.. ستدرّ الحفلات في النهاية مبلغاً كبيراً.. فكيف لا أساهم في النفقات؟!.. ما رأيك في ألفين من quot;التاليراتquot;..
- يا إلهي.. ألفا quot;تاليرquot;.. إنك تهدر مالك حقاً يا عزيزي أوتو..
- لنقل إنني أحسن استثماره.. أنا تاجر.. هل نسيت؟!.. أسمع رأيك في قضاء أسبوع معنا في قصري بزيوريخ بعد انتهاء الحفلات.. قالت لي ماتيلدا أنك تخطط لعملٍ أوبرالي كبير.. تعال مع عزيزتنا مينا واقضيا معنا أسبوعين.. شريطة أن تُسمعنا بعض ألحان العمل الجديد.. ماتيلدا تصرّ على الدعوة!!
وحتى لو لم تصر ماتيلدا.. ما تخلّف ريتشارد عن موعده مع القدر لحظةً
واحدة..
- 3 -
bull; في قصر أوتو وزندونك بدأ الحب الغامض يتسلل إلى قلب ماتيلدا وفاغنر كما يتسلل اللص الملّثم.. بإصرارٍ من الزوج.. وبموافقةٍ حماسية من مينا.. صار فاغنر مدرّساً للبيانو للعزيزة الجميلة quot;ماتيلداquot;..
حتى اليوم لم يتمكن مؤرخو فاغنر من حلّ ألغاز علاقته بماتيلدا.. أكانت الموسيقى وحدها هي شاغلهما إذا اختليا؟!.. يقف النقّاد حائرين أمام هذه الفقرات المثيرة في يوميات quot;ماتيلداquot;.. منها هذه الفقرة مثلاً:
quot;إنه معنا في القصر ليل نهار.. ما يؤلفه من الموسيقى في الصباح.. يعزفه لي عند الغروب ما بين الخامسة والسادسة.. إنه يبعث دفء الحياة أينما يكون.. يخرج من غرفته قرب الظهر مرهقاً متعباً منهكاً.. من فرط ما بذل من جهد.. ولكن سرعان ما تعود إليه بهجة نفسه ونشاطه العقلي والجسماني وهو يتمتم لي بما كتب من ألحان..quot;
bull; أهذه يوميات عاشقة؟!
أم خواطر فنانةٍ ترى أن الحياة أسعدتها بأن تكون ملهمة فنانٍ عظيم مثل ريتشارد فاغنر!!..
كيفما كانت الحقيقة.. فقد بدأت الهمسات واللمزات والغمزات في أوساط زيوريخ الاجتماعية الراقية.. وهذه بعض نماذج لما يقال:
1- هذه فضيحةٌ لا يجب السكوت عنها..
2- بل هي أمورٌ شخصية لا دخل لنا فيها.. ثم إننا نعرف طهارة وعفّة ماتيلدا وزندونك..
3- أية طهارة وأية عفّة؟!.. إنها تقضي معه أكثر ساعات النهار.. والليل أيضاً.. وزوجها يعرف!!
4- آن الأوان ليفيق هذا المخدوع أوتو وزندونك قبل أن تدوّي الفضيحة في كل أرجاء ألمانيا!!
***
bull; ومن عجب.. أن زوجته مينا لم تشعر بما كانت تشعر به من قبل من غضبٍ وغيرةٍ أزاء علاقات زوجها السابقة!!.. حين سألها فاغنر ذات يوم:
- مينا.. لقد ضقت بالشائعات التي تثرثر بها نساء زيوريخ وأعدائي من العازفين التافهين.. يحسن أن نغادر قصر وزندونك.. ما رأيك؟!
- هل تريد ذلك حقاً؟!
- كلا.. فأنا أجد نفسي تماماً في هذا القصر الأنيق والحياة المرفهة.. لقد أنهيت تقريباً خلال شهرٍ واحد عملاً من أعظم أعمالي quot;لونجرينquot;.. ووضعت التخطيط الأوركسترالي لعملٍ جديد..
- هل تخشى الوقوع في غرام ماتيلدا العزيزة؟!
- ماتيلدا كابنتي تماماً.
- وهي كذلك بالنسبة لي.. ولا أهتم بما يقول الناس.. لنبق يا عزيزي ريتشارد!
bull; ومن عجب أيضاً.. أن الزوج أوتو وزندونك لم يضق بالصداقة الحميمة التي ولدت ونمت بين زوجته الشابة ماتيلدا وبين الموسيقار ابن الخامسة والأربعين..
في يومٍ.. وكان فاجنر وزوجته قد اعتزما الرحيل من القصر قال لماتيلدا:
- أحسب أنني مثل آدم حين خرج من الجنة..
- ولماذا تخرج إذاً؟!
- لقد غدوت ضيفاً ثقيلاً.. ومع هذا فإني أشعر دائماً وأنا معك في هذا القصر أن حلمي قد تحقق تماماً..
- بماذا كنت تحلم دائماً يا عزيزي ريتشارد؟!
- لي ثلاثة أحلام دائمة.. أن أكتب موسيقى رائعة كموسيقى بتهوفن.. أن أعيش في دار أنيقة لها حديقة واسعة أكتب فيها ألحاني مع بكرة الصباح..
- والحلم الثالث؟!
- أن أهب حياتي كلها دون تحفُّظ لحبيبةٍ جميلةٍ رقيقة فنانة مثلك!!.. لقد تحققت أحلامي كلها كما ترين..
- لن ترضى مينا عن هذا اللون من الحديث يا ريتشارد.. اخفض صوتك حتى لا تسمعنا..
- إذن لنخرج إلى شاطئ البحيرة.. هناك لن يسمعنا غير الموج الهادئ والنسمة الرقيقة.. وعصافير الغابة..
bull; وخرجا سوياً..
سارت بهما العربة ذات الجوادين في محاذاة شاطئ quot;بحيرة زيوريخquot; في الوادي المعشب الذي يفصل البحيرة عن غابة quot;سيكلquot;.. التي اعتاد العشاق ارتيادها..
- المكان هنا هادئ يوحي بالشعر والموسيقى!
- في أول سنوات زواجي من quot;أوتوquot; أقمنا في قصرٍ لنا على الربوة.. يطل من كل ناحيةٍ على الوادي والغابة والبحيرة.. لو استدرنا عند المنحنى القادم لأمكنك رؤيته من بعيد..
- وهل يعيش به أحد الآن؟!
- كلا إنه منعزل.. وزوجي كما تعرف يميل إلى أن يعيش وسط زيوريخ تسهيلاً لأعماله التجارية.. أتحب أن تزور ذلك القصر؟!
- بالطبع.. ولكن.. لكن أخشى أن..
- لا تخشى أحداً يا عزيزي ريتشارد.. إننا لا نلحق الشر بأحد.. لا بزوجي أوتو.. ولا بزوجتك مينا!
bull; وتفقدا القصر المهجور.. يقول بعض نقّاد فاجنر على أنهما تصارحا بحبهما في ردهات ذلك القصر الساحر المسحور.. ويرفض هذا الحديث نقادٌ آخرون تؤيدهم يوميات ماتيلدا نفسها..
- إذا كنت تريد أن تقيم مع مينا في هذا القصر فسأكلم زوجي في هذا!
- ماذا؟!.. أقيم بعيداً عنك؟!
- إذن ننتقل جميعاً إلى هنا..
- لن أعيش عالة على زوجك بعد اليوم!
- هناك الحل الذي يرضي الجميع.. أنتقل أنا و أوتو إلى هذا القصر، ثم نبني لك بجوارنا فيللا تجاور حديقتها حديقة القصر.. وبهذا لا نفترق أبداً!..
- يا إلهي.. أي حلمٍ هذا الذي يتحقق بهذه السهولة..
bull; في كرمٍ وسخاء.. أقام أوتو وزندونك فيللا أنيقة بجوار قصر بحيرة زيوريخ، لصديقه ريتشارد وزوجته..
- سأسدد لك يا صديقي كل quot;تالرquot; دفعته في هذه الفيللا الأنيقة.. الناشرون يتهافتون من الآن على العمل الأوبرالي الجديد quot;لونجرينquot;.. كما أنني أكتب عملاً آخر عن الأسطورة الجرمانية القديمة quot;تريستان وإيزولداquot;.. سأسدد لك كل تالر يا صديقي العزيز!
bull; في الفيللا المجاورة لقصر الحبيبة.. تفجرت عبقرية فاجنر عن أعظم أعماله قاطبةً.. وحين شرع في كتابة ألحان quot;تريستان وإيزولداquot;.. وتهيأت الأحداث لاستقبال المجهول!!..
فالعلاقة الغامضة بين ماتيلدا وزندونك الشابة الجميلة ذات الأحاسيس الرقيقة الناعمة.. وبين عبقري الموسيقى الألمانية ريتشارد فاغنر.. صارت أمراً واقعاً.. بعد أن صارت quot;فيللتهquot; الآن ألصق بقصرها على شاطئ quot;بحيرة زيوريخquot;.. وتفجرت الألحان العظيمة بوحي من حبّه العارم للشابة الجميلة.. وبدأ العمل في أعظم ألحانه قاطبةً.. عمله الأوبرالي quot;تريستان وإيزولداquot;..
***
- الفكرة مثيرة جداً يا ماتيلدا.. والأحداث ذات طابع أسطوري.. ولن تكلّف المخرج من النفقات ما كلّفته quot;لونجرينquot; أو quot;سيجفريدquot;..
- لا تشغل بالك بالنفقات يا ريتشارد quot;أوتوquot; سيتكفّل بكل شيء.. وستسدد له كل ديونك!
- بالمناسبة.. لقد دفعت له أمس آخر دفعة من ثمن الفيللا..
- يا إلهي.. كيف تتكلم في الماديات ونحن بصدد أعظم ألحانك.. حدثني عن quot;تريستان وإيزولداquot;!..
- القصة بالغة الجمال.. ولا أحسب قصة لها الطابع الموسيقى الملحمي مثل قصة quot;تريستان وإيزولداquot;.. جاء الأمير تريستان إلى مملكة الكورنواليين ليخطب لابن عمه الملك مارك، ابنة ملك الكورنواليين quot;إيزولداquot; الجميلة.. ظنت الفتاة أنه جاء ليخطبها لنفسه، فوقعت في غرامه.. حملها في سفينةٍ عائداً بها إلى عريسها ابن عمه دون أن تكتشف العروس حقيقة الأمر!!.. تتحطم السفينة على شواطئ جزيرةٍ تسكنها ساحرةٌ خبيثة، عملت على أن تفسد طهارة قلب تريستان بأن سقته إكسيراً جعله يعشق إيزولدا عشق الجنون، ويتنكر لقسمهِ لابن عمه ولشرف الفروسية..
- وأيهما انتصر في النهاية؟!.. الحب أو الشرف والفروسية؟!!.
- في استطاعتي أن أعدل النهاية حسب ما تريدين يا ماتيلدا..
- الحب جميلٌ ونبيل.. ولكن الشرف والفروسية أجمل وأنبل..
- والأحزان؟!.. والمآسي؟!!.. كيف يقوى قلبك الرقيق على قتل زهرة الحب الوديعة..
- لست أدري.. لست أدري.. لا تسألني يا ريتشارد.. أرجوك..
- إذن فلن أكتب تريستان وأيزولدا!!
- لا.. لا.. اكتبها.. ألا ترى أن فيها عزاءً لنا.. اكتبها أرجوك!!
***
bull; وأتم المقدمة الأوركسترالية للعمل الأوبرالي الخالد quot;تريستان وإيزولداquot;..
عبّر فيها عن لواعج قلبه، وحبّه اليائس لماتيلدا.. كان يشعر بأنها تحبه.. وأنها ممزقة بين أن تدوس على زهرة الحب الوديعة.. وبين أن تلوث شرف الزوج واسم الأسرتين..
كتب في يومياته شيئاً عجيباً حار المؤرخون في تفسيره.. كتب :
quot; ومددتِ يدك يا حبيبة القلب وتوأمة الروح، وأمسكتِ بيدي.. أخذتني إلى البيانو.. وانحنيتِ أمامي وأنا أعزف لك مقدمة تريستان وإيزولدا.. لم يكن هناك ما يتمناه قلبي أكثر من هذا.. في هذا اليوم.. في تلك الساعة ولدت من جديد.. ورأيت الدموع في عينيكِ مع آخر اللحن.. قرأت في عينيك قراراً حاسماً عبّرتِ عنه حين أخذتني من يدي مرةً أخرى لنتجاور على الأريكة المقابلة للبيانو.. لم يعد هناك ما يقال بيننا.. النور القدسي كان يلفّنا في أشعته المسحورة.. قُلتِ لي بصمتِك.. بنظراتك الضارعة.. بلمسات أصابعك كل ما كنت أتوق إليه..
للمرة الأولى في حياتي أدرك بلاغة الصمت!!.. ولم أعد سوى ذرةً هائمة في هالة حبكquot;.
bull; إن كان فاجنر قد بالغ في فهم شعورها نحوه.. فما معنى هذه الجمل من مذكراتها؟!..
quot;.. في دهاليز خياله الموسيقي العبقري.. تجولت في تلك اللحظات كالتائهة الذاهلة.. كنت أتساءل.. أيها أعظم وأنبل: الحب.. أم الشرف؟!.. على أي موقفٍ أنا قادرة؟!.. على موقف تريستان قبل أن يسربله إكسير الساحرة بحب إيزولدا؟!.. أم بعد أن صار مولعاً بها إلى حد الجنون؟!.. تريستان.. الوفي للشرف ولقَسَمهِ لابن عمه الملك مارك!!..أم تريستان الذي أفقده الحب كل إحساسٍ بالواجب والنبل وروعة التضحية؟!.. ماذا أقول للملك مارك في الحالين؟..ماذا أقول لزوجي quot;أوتوquot;؟!..
- 4 -
bull; الشكوك الآن تحيط بالعاشقين من كل جانب!!..
شكوك الزوجة مينا.. التي تقضي أكثر أوقاتها في الفراش بسبب مرضها بالقلب.. بينما ريتشارد يقضي الوقت كله في الحديقة الفاصلة بين القصر والفيللا مع الشابة الحلوة الرقيقة ماتيلدا..
وشكوك الزوج الذي يسمع الهمس واللمز في كل مكان يحل به.. ولم يكن أمامه سوى مصارحة زوجته.. فقالت:
- أجل إنني أحبه يا أوتو.. ولكنه حبٌ نظيف.. أحب العبقري.. أما الرجل فهو في منزلة الأخ الكبير.. لا أكثر ولا أقل!!..
- وأنا أصدقك يا ماتيلدا.. ولكن يحسن أن نضع حداً للشائعات.
- كيف؟!
- نترك هذا القصر..
- لا أستطيع البعد عن ريتشارد!!
- ماتيلدا.. إنك تناقضين نفسك!
- ألا يكفيك أن أقسم لك أنني لن أسيء إليك أبداً؟!
- الشائعات تسيء إلى طفلك قبل أن تسيء إليّ.. ريتشارد فاغنر يكتب يوميات.. وستُنشر هذه اليوميات بعد موته.. كيف يواجه طفلك الحياة وقصة أمه في كتابٍ في كل بيت.. يجب أن نترك القصر..
- أوتو.. لقد كنت معي كريماً وأميناً دائماً..
- وأهم من هذا أنني أحبُّكِ.. ولا أتصور أن أفقدَكِ!!
- ستفقدني إذا أرغمتني على البعد عن ريتشارد.. ساعتها سأقتل نفسي..
- يا إلهي!!.. أتحبينه إلى هذا الحد؟!
- لقد قلت لك.. أحب العبقري.. أما ريتشارد الرجل فإنه يعرف أنني أشرف من أن أسيء إليك!!
- حسناً.. سنبقى إذا وعدتني أن تكوني على ما عهدتك به من حرص!!
bull; اتفاقٌ عجيب!!
وإذا كان أوتو وزندونك قد اقتنع بهذا الوعد من جانب زوجته، فإن الزوجة مينا بلانر لم تكن على هذا اللون من السماحة..
ذات يوم وقعت على ورقةٍ بخط فاغنر.. لعلها كانت مسودة خطابٍ كان ينوي إرساله إلى صديقه جوهان.. قرأت:
quot; هذه العاطفة الكريمة نحوي.. أعطتها القوة على مواجهة زوجها.. بل على تهديده بالانتحار إذا أرغمها على قطع صلتها بنا.. إنها قادرة على تنفيذ تهديدها.. وأنا أيضاً قادر على اتخاذ القرار الذي اتخذته.. سأتبعها إلى العالم الآخر إذا انتحرت.. فالحياة دون ماتيلدا وحدةٌ باردة أفضل منها برود الموت!!..quot;
bull; تعذّبت مينا في صمت على غير عادتها.. أهو المرض أرغمها على قبول ما لم تكن تقبل عشر معشاره في الأيام السالفة؟!.. ربما..
كتب فاجنر إلى صديقه جوهان:
quot; لم يعد أوتو وزندونك يعاملني بالود القديم.. أول أمس قال لزوجتي كلاماً يستثير غيرتها من زوجته..
(ولكن أهدأ من ثائرة الصديق القديم).. سأسافر إلى باريس لشهر أو لشهرين.. أعرف العذاب الذي سأقاسيه في البعد عنها.. ولكن من النذالة أن أزيد في جرعات عذابها.. وفي جرعات قلق أوتو الذي كان دائماً رقيقاً وكريماً معيquot;.
***
bull; حتى يومنا هذا.. لا يزال الجدل قائماً بين المؤرخين عن حقيقة العلاقة بين ماتيلدا وزندونك وبين فاجنر.. وعن المدى الذي انزلقت إليه تلك العاطفة التي تلهبها ألحان الموسيقار الأشهر في قلبه، وفي قلب المحبوبة الشابة الجميلة الرقيقة..
يعبّر أحد المؤرخين عن رأي المجموعة التي تدين تلك العلاقة بقوله:
quot; كانت ماتيلدا تعرف عن يقين أن التاريخ سيدوّن كل شيء عن علاقتها بفاجنر.. ولهذا فقد أعدّت في ذكاء quot;ملفquot; تلك العلاقة، بعد أن جرّدته من كل ما يشينها ويشين طفلها ابن أوتو.. ولكن هذا الملفّ مليءٌ بالثغرات التي لم تحسن ماتيلدا ملأها!!.. لقد اخفت خطابات كثيرة.. ووضعت نسخاً بخطها لخطابات أخرى!!.. فلماذا لم تُبقِ على أصول تلك الخطابات التي أبقت عليها.. إن لم يكن لترفع منها ما يدينها؟!!.. ثم.. كيف اختفت تلك الخطابات التي أشار إليها فاغنر في يومياته؟!!.. ماذا تقول؟!.. وإلى ماذا يدفعنا الظن؟!!.. أين أصل الخطاب الذي وجدت مسوّدته في أوراق فاجنر بعد موته؟!.. ولماذا أخفت ماتيلدا ذلك الخطاب على وجه الخصوص؟!quot;
ترى ماذا جاء في ذلك الخطاب الذي أخفت ماتيلدا أصله؟!
فيه جمل تحتمل كل الأفكار.. طاهرة وغير طاهرة.. ومع هذا.. فمن يدافعون عن براءة العاشقين من تهمة الخيانة يقولون:
- إنها مجرد كلمات كتبها الموسيقار الشاعر في لحظة انفعال شديد.. ومن المؤكد أن أعداءه يستطيعون أن يحرّفوا الكلمات عن مواضعها ويخرجوا بها من إطارها النظيف.. وهي في عمومها تعبّر عن حبٍ كبير، أقرب إلى تهاويم الصوفيين.. تغلّبَ فيها الشرف على نزعات الحب الأرضية.
bull; فماذا عن موقف الزوجة المريضة quot;ميناquot;؟!..
في السابع من أبريل عام 1857 فاض بها الكيل.. قامت من فراش المرض دون أن يدري زوجها أنه صار موضع رقابةٍ دقيقة منها ومن خادمتها المخلصة quot;إيميلياquot;..
- لا بد من أن أعرف اليوم الحقيقة كاملة يا إيميليا.. اليوم يجب أن أضع نهاية لكل شيء..
- سيدتي.. كأنك لا تعرفين؟!
- ولكني غير واثقة.. أريد الدليل.. الدليل الحاسم!!
- ستحصلين عليه اليوم يا سيدتي..
- (في لهفة).. ماذا تعرفين ولا أعرفه يا إيميليا؟!
- إنني أراقبهما كل ساعة.. من نافذة المطبخ المطلة على الحديقتين.. أنا واثقة أنهما خائنان..
- الدليل يا إيميليا.. الدليل.. قلتِ أنني سأحصل عليه اليوم.. ما الذي يدفعك إلى هذا القول؟!..
- لقد اعتكف هذا الصباح في مكتبه.. لمحته من الباب الموارب، يضع أوراقاً كثيرة في مظروف.. خرج من المكتب فرآني في الردهة، فسألني عن خادمه quot;أمبوازquot; قلت أنه خرج مع الكلب في النزهة اليومية المعتادة.. فطلب مني أن أرسله إليه فور عودته.
- وماذا يعني هذا كله؟!
- إنه ينوي أن يرسل إليها هذه الأوراق..
- ماذا بها؟!
- لا أدري.. ولكني أعتقد أنها أوراق موسيقية.. لعل بها آخر ما كتبه في الأوبرا الجديدة quot;تريستان وإيزولداquot;..
- من المؤكد أن مع الأوراق رسالة لها.. إيميليا.. أريد هذا الخطاب بأي ثمن..
bull; وتربصت الزوجة حتى جاء الخادم.. اختلى به فاجنر في الردهة تحت الدرج..
- امبواز.. اذهب بهذه الأوراق إلى السيدة ماتيلدا.. اِخفِها بين ثيابك ولا تسلّمها إلا لها يداً بيد.
- وإذا وجدتُ زوجها هناك يا سيدي؟!
- قل إنني أرسلتك للسؤال عن صحته..
<