يصادف اليوم 23 أبريل ذكرى ميلاد ووفاة ، شاعر الانسانية منذ قرون وليم شكسبير..
وبهذه المناسبة لي رجاء عند الأحباء قراء إيلاف ممن سيقرأون هذا المقال ، أن تكون مشاركتهم ضمن إطار هذه المناسبة.. أقول هذا مع إيماني المطلق بحرية الرأي ، ولكن وفق ضوابط تحددها طبيعة الموضوع والمناسبة ، وهي الاحتفال بإحياء هذه الذكرى بتقديم نبذة عن حياة هذا العبقري..
قد يأتي من يبحث في مسرحية تاجر البندقية ، ليقف على رأي شكسبير من اليهود (شايلوك) ، ثم ينحرف تيار المناسبة ليغدو موضوعاً طائفياً ndash; كما جرت العادة ndash; في هذه الحالة أرجو من الأخوة في إيلاف قطع الطريق على هكذا محاولات ليتم التركيز على الاحتفال بذكرى شكسبير في هذه المعلومات الوجيزة عنه.. مع الشكر.
* * *
bull; في أحد أيام عام (1585) خرج أحد شبّان بلدة ستراتفورد مغترباً إلى لندن، ولم تزد سنه في ذلك الوقت على الحادية والعشرين.. وبعد غيبة استمرت (11) عاماً، عاد ذلك الفتى إلى مدينته عامر الجيب من كسب عمله في المسرح.. وكان المسرح إذ ذاك، يعدّ لوناً جديداً من ألوان الترفيه والتسلية، اشتد عليه إقبال أهل ذلك العصر.
و ليس من المؤرخين لحياة شيكسبير من يذكر سوى النذر اليسير من تلك السنين الأولى التى أمضاها في لندن طلباً للرزق..
واذا كنا في هذه السطور نتحدث عن واحدٍ من أبرع عباقرة المسرح -عبرجميع العصور- فإن هناك حقيقة أخرى تؤكد: أن شيكسبير قد نال شهرة واسعة، باعتباره واحداً من ألمع الشعراء عندما نشرت له قصيدة (فينيوس وأدونيس) عام (1593)، ثم أصدر بعدها قصيدة (لوكريس)..
لكن شيكسبير لم يستمر في كتابة القصيدة الشعرية، وإنما جعل من المسرح ميدانه، وأصبح هو فارس هذا الميدان حتى قيل: (لا مسرح بلا شيكسبير).
وقد تعرض شيكسبير للكثير من الهجوم من نقاد عصره ، واتهموه بأنه دخيل ٌعلى ميدانٍ يخصّ المثقفين من خريجي الجامعات.. لكنه لم يعبأ بالنقد، واستمر في تأليف المسرحيات حيث كتب مسرحية: (حلم منتصف ليلة صيف)، وقد كتبها
مناجاة هاملت: quot;أن تكون أو لا تكونquot; موسيقى وليام وولتون
بمناسبة زواج صديقه اللورد (اسكس)، دُعيت إلى حضوره الملكة العذراء إليزابيت.. ثم كتب المسرحية الوطنية الرائعة: (هنري الخامس)، وأظهر فيها شخصية (فولستاف)، بطلب من الملكة نفسها، لأن هذه الشخصية - فولستاف - تنفس عن الملكة، وتزيل عنها الكآبة.
عبقرية شيكسبير:
bull; وقد تفوق شيكسبير في عدد الشخصيات التي تضمنتها مسرحياته، على غيره من الكتّاب، إذ لم يتح لكاتب غيره، حتى ولا تشارلز ديكنز، أو بلزاك، أو ديستوفسكي، أن أخرَج إلى الوجود ذلك الحشد الكبير من الأنماط البشرية، والشخصيات الفاعلة والمؤثرة..!!
ولهذا يُعد شيكسبير من أعظم كتّاب العالم وأقدرهم، لأنه أدرك بنافذ بصيرته أسرار النفس البشرية، واتخذها لموضوعات مسرحياته، وقد ساعدته على ذلك سليقته السليمة والنفّاذة، حيث هدته إلى انتقاء اللفظة المُحكمة، التي تؤدي المعنى المتكامل.. وهذه إحدى مصادر نبوغه الذي يتخطى بها حواجز التعليم، أو الدرس، أو حسن الحظ..
وقال النقّاد: أن إحاطة شيكسبير النفّاذة للروح الإنسانية، جعلته يعرض لنا كل هذه الأنماط والنماذج البشرية، وفي جميع المواقف والظروف، واطلعنا على الدوافع التي حفّزت أفعالهم!!.. فأصبحنا نرى فيهم صورةً لدوافعنا، وحوافزنا، وسلوكنا..
bull; إن شيكسبير يمثّل في معطياته أرقى ما بلغت إليه حركة النهضة الأوروبية، وهي في لبابها تتلخص في اكتشاف الجنس البشري لقيمته، وأهميته، التي كادت أن تضيع على مرّ العصور.
ولعل ما يدفع البعض لقراءة شيكسبير ومشاهدة مسرحياته، هو أنه مصدر لأولئك الذين ينهلون من معينه المرتبط بثراء اللغة الإنجليزية، فثروته اللغوية منها لا يحصرها عدّ، حيث استُخرجت من مؤلفاته ثلاثون ألفاً من الكلمات الإنجليزية الأصيلة، قد استعملها في مواضعها الصحيحة دون نقصٍ أو تجاوز، وهذا ما يعدّه البعض أمراً معجزاً في صناعة القريض، فكل لفظة عنده تستوعب المعنى بتمامه.. فالكلمة عند شيكسبير توضع في مكانها بتناسُق وتناغُم مع بقية الكلمات المترابطة جرساً، ونغماً، بحيث تجعل من الحكمة الشعرية حقيقة يشعر بها أولئك الذين يستمتعون بالبناء المترابط والمحكم لوضع الكلمات على ألسنة الشخوص فوق خشبة المسرح.
عوالم مسرحيات شيكسبير:
إن شيكسبير أشبه بالعالم، أو أشبه بالحياة نفسها، ففي كل حقبة تاريخية، تجد في معطياته ما تبحث عنه، وما تريد أن تراه.. فالذي يقرأ ويشاهد أعمال شيكسبير في القرن الواحد والعشرين، بمقدوره أن يؤول (ريتشارد الثالث) من خلال تجاربه.. فالصراع على السلطة من أجل الحفاظ على الحكم، يحدث في كل زمانٍ ومكان، كما أن لكل عصر من العصور هناك (روميو وجولييت)، و من خصائص عبقرية شيكسبير أن مسرحياته تُشعر قرّاءه ومشاهدي مسرحياته بانتماء أحداثها إلى وقتهم الراهن، وهذا هو سرّ عبقرية شيكسبير التي اختزلت الأزمنة والأمكنة على امتداد الدهور.
ويصعب علينا أن نشير إلى مجمل أعمال شيكسبير المسرحية بالتفصيل، ولكننا سنذكر أهم أعماله، وأولها كانت مسرحية (الحب الضائع) و(سيدان من فيرونا) و (كوميديا الأخطاء).
مع أن العمل في المسرح - في زمن شيكسبير - لم يكن من الأعمال التي تُعلي من شأن الإنسان، على عكس الشعر تماماً الذي كان يضمن لصاحبه مكانةً مرموقة في المجتمع، إلا أن المسرح كان يدرّ أموالاً أكثر مما يدرّه الشعر، وهذا الذي دفعه، لأن يصبح عضواً في فرقة التمثيل الخاصة بـ اللورد (ليستر)، فكان يشتغل بالكتابة تارةً، والقيام بالأدوار الثانوية تارةً أخرى.
ومع هذا فقد وُجهت أصابع الاتهام لهذا العبقري بأنه ليس هو الكاتب الحقيقي لكل تلك الأشعار والمسرحيات التي ظهرت باسمه، لأنه لم يتلقى التعليم الكافي الذي يجعله يخوض في تلك الموضوعات التي تناولها، وقد نسبوها إلى فرانسيس بيكون، والبعض نسبها إلى كريستوفر مارلو!!.. وهناك قائمةٌ أخرى من الأسماء.
ودارت مساجلاتٌ طاحنة بين النقاد والكتاب في هذا الموضوع، حُسمت في الأسابيع الماضية بقرارٍ اتخذ للكف عن مواصلة البحث في هذه القضية بعد أن ثبت بطلان كل تلك الادعاءات.. كما جرت دراسات مقارنة مكثّفة على الموضوعات والمفردات التي وردت في مسرحيات شيكسبير، كما وردت عند غيره من الكتّاب، وخصوصاً - فرانسيس بيكون - في محاولاتٍ لتأكيد ذلك الاتهام، ولكن كل تلك المحاولات لم تصمد أمام ذلك التيار الهادر الذي جعل من شيكسبير أعظم شاعرٍ خاض في المشاعر الإنسانية منذ ولادة الإنسان وحتى مماته.
تراجيدياته:
توقف شيكسبير عن كتابة المسرحيات المرحة والتاريخية توقفاً تاماً، لسببٍ لا يدريه أحد، لكن النقّاد يُعزون ذلك إلى كارثةٍ ما، وقعت في حياة ويليام شيكسبير، فقضت على كلّ مرح وبهجة كان يمارسها في حياته، وكذلك انعكست - تلك الكارثة - على مجمل معطياته المسرحية.
ما هي تلك الكارثة؟!.. ما حقيقتها؟!
bull; يجتهد مؤرخو شيكسبير، فيعزونها إلى شدة جزعه من المصير المحزن الذي لقيه صديقه اللورد (اسكس)، حيث عُلّق على المشنقة بعد أن حكمت عليه الملكة إليزابيت بالموت..!!
وهناك الكثير من التخمينات تناولت سبب الكآبة التي اكتنفت حياة شيكسبير، مما جعل مسرحياته تفيض بمواضيع الخيانة، والغدر، والجحود، والخديعة، مثلما حدث في (هاملت)، و(عطيل)، و(الملك لير)، و(ماكبث).. فقد اتشحت هذه المسرحيات بروح سوداوية تتوالى عليها وكأنها أمواجٌ يتلاطم عبابها!!.. فلم نعد نرى الجنيّات الفاتنات ترقصن في ضياء القمر، إذ بُدّلن بالعجائز الساحرات اللواتي تدوّي أصواتهن المنكرة حول وهج مباخر السحر.. واستبدل المرح بالخيانة المبيتة، والحقد والدسيسة التي تكمن في جوف الظلام الحالك.. حيث يخون الصديق صديقه.. وحيث الجريمة.. وحيث الدماء.
وظلّ شيكسبير لأكثر من سبع سنوات يعيش وطأة ظلمةٍ حالكة، ويعتري عقله الألم والحيرة المنهكة التي صوّرها في هاملت، وهو يسأل نفسه عن أيهما أفضل له، الحياة أو الفناء في هذه الدنيا المليئة بالآثام والعدوان..
وأصبح ذلك التساؤل الشيكسبيري الذي ورد على لسان (هاملت) مثلاً يتناقله الناس: To be or not to be.. That is the question?! (نكون أو لا نكون..هذا هو السؤال؟!)
ولكن شيكسبير لم يستمر في معطياته بتلك الرؤية السوداء، إذ وجدناه قد اختتم حياته بمسرحياتٍ أخف وطأةً من تلك التراجيديات المحزنة التي اصطبغت بها أعماله، فكتب (سمبلين)، و(قصة شتاء)، و(العاصفة).
ولعل أفضل ما نختتم به هذه العجالة عن شيكسبير، هو ما قاله شيكسبير عن نفسه: quot;سوف تفنى كل الآثار، مهما كان رخامها صامداً، ومهما تأنّق مذهّبو زخرفها، ولن تفنى فرائد شعري أبد الدهر..!!quot;
وقد صدق الرجل، فقد طُبعت مسرحياته مئات المرات، وتُرجمت إلى معظم اللغات، ومُثّلت فوق خشبات المسارح مرّاتٍ لا يحصيها العدد.
شيكسبير عند العرب:
ومؤلفات شيكسبير معروفة في اليابان، مثلما هي معروفة في الهند الصينية، وأمريكا اللاتينية، وجنوب شرقى آسيا، والعالم العربي، كما أنه مشهور بطبيعة الحال في قارتي أوروبا وأمريكا الشمالية.
ومسرحيات شيكسبير تُعرض في معظم المواسم فوق مسارح برلين، وموسكو، وطوكيو، وبومباي، وقلّما نجد موسماً مسرحياً إلا وتُمثّل فيه إحدى مسرحيات شيكسبير على مسارح الدول عبر القارات.
bull; باستثناء العالم العربي، الذي استمر الناس فيه بمشاهدة التهريج المبتذل على حساب أعظم الأفكار التي تضمنتها مسرحيات عُظماء الكُتّاب..
هذا عدا فترات نادرة تقوم بها المسارح القومية الرسمية، والتي لا تلقى إقبالاً إذا ما قيست بمسارح القطاع الخاص، التي ساهمت إلى حدٍ كبير في إفساد الذوق عند مشاهدي المسرح.. ولذا، فإن شيكسبير الذي يحتفل العالم بذكرى ميلاده ووفاته سنوياً.. نجد أن العالم العربي لا يعره اهتماماً ولا التفاتاً، بل إن البعض منهم أمعن في السخرية منه، عندما نسَبَه إلى العرب، وجعلوا منه (شيخاً للزبير!!).. ومن المؤسف أن من قام بذلك بعض الأكاديميين من أمثال الدكتور صفاء خالص من العراق ، والدكتور علي فهمي خشيم من ليبيا.. أما نفس المقولة فقد وردت على لسان معمر القذافي ، فهذه لا تؤخذ بعين الاعتبار نظراً ما للقذافي من براعة في التهريج.