تليق جنيف بلحظة صفاء دولية، تبتاع الدول، الكبرى، على هامشها، ساعات للمقايضة والتفاوض على جثث أقاليم ودول، القبائل والطوائف، الأيلة للتفكك. في جينيف وأخواتها، فينيا وأسلو وإستوكهولم، أرض الحياد العالمي، عادة ما يتم شرب الأنخاب إحتفالاً بالكيانات الجديدة، وعلى الهامش يجري نعي القديمة.

وأيضاً، تليق جنيف وأخواتها، لحالة الحروب الإقليمية، الغير ناجزة، والتي لم تستطع أطرافها حسمها نهائياً، على الأقل لجهة الأهداف التي وضعها كل طرف، فيصار إلى إرضائها، إما بتكريس أوضاع كل طرف على الأرض، وإما بتدعيم الأوضاع السياسية للأطراف المختلفة بالضمانات الإقليمية والدوليةquot; جنيف العربية- الإسرائيلية مثالاًquot;.
وتليق جنيف، أيضا، كملتقى لأمراء الحروب، وبالتحديد منها الأهلية، الذين يقنعون بعد طول حرب بضرورة تقاسم الثروة والسلطة، فالمدينة quot;جنيفquot; بلا شك تملك إغراءً مشهوداً بهذا الصدد، وهي إستطاعت ان تنجز عشرات الإتفاقيات والتفاهمات ، بهذا الخصوص، للأقاليم العالم ثالثية بعد أن فاضت عذابات وثروات وصراعات لا قدرة لأهلها على إدارتها، وتحملها أيضاً.
غير أن مواصفات الحالة السورية، بوضعها الحالي على الأقل، لا زالت بعيدة عن إمكانية الإنطباق مع المواصفات والإشتراطات الجينيفية، فلاهي بصراع قبائل وطوائف، رغم كل محاولات جرها إلى هذا المربع، ولا هي بصراع إقليمي ناجز، بالرغم من دخول بعض الأطراف الإقليمية على هامشها، وليس لدا أطرافها أمراء محددون وواضحون يمونون على مكونات إجتماعية معينة، أو حتى تشكيلات سياسية محددة.
على ذلك، يتضح أن المؤتمر، الذي سيتم عقده بناءً على تفاهم جنيف، ليس سوى محاولة مبكرة لتسوية دولية، يعتقد أطرافها، في الغالب، أن الأمور باتت ناضجة لصفقة معينة، أو هو، بالأدق، إستباق لمرحلة، بدأت نذرها بالتمظهر في المشهدية السورية، تعتقد معها، تلك الأطراف، أنه في حال الوصول لها لن يكون هناك ثمر للتفاوض عليه، فقط حقول من الأشواك التي لن توفر أحداً من لسعها.
لكن هل إنتبه أحداً ان جنيف في الحالة السورية كانت رمزاً لعذاب سوري مضاعف وبشع، إذ في الطريق إليها جرى إنضاج الجسد السوري كل أنواع النيران، وصولاً إلى الكيماوية، وجرى إستدعاء كل أشكال الميليشيات وأنواع الأسلحة، فقط للوصول إلى حالة يقول النظام فيها أنه طرف وازن على الأرض في مواجهة شعب الأرض نفسه، على هكذا تفتقت الذهنيات الروسية والإيرانية، مدعومة بخبرات وافرة في قمع الشعوب، وهكذا كان تنفيذ قوات الأسد بمساعدة وافرة وحميمية منquot; حزب اللهquot;.
بيد أن جنيف، التي لم يتحدد في وثيقتها وبنود تفاهمها، مسارات الأمور ومألاتها، ستعجز عن فك العقدة السورية، ففي هذه البلاد ثورة، كانت وما زالت وستبقى، حتى لو إنزاح من مشهدها كل الطيف المسلح، وأنجزت كتائب الأسد والقوى المتحالفة معها مهمة القضاء على كل ثائر مسلح، ستبقى الإشكالية السورية قائمة، وستظل حالة الثورة ولادة دائماً لأنماط مختلفة من الرفض للقهر والطغيان.
جنيف، بصياغة بنود وثيقتها، وبإشتراطاتها، تشكل وعداً دائما بالموت للسوريين، ما دامت ستكرس الطغمة الحاكمة أبدياً، أو حتى مجرد شريك، لأن هذا النوع من الصفقات سيكتفي بالعموميات، ويترك الطغمة ذاتها تشرف على التفاصيل، وتفاصيل حياتنا مع الطغمة سردية متكاملة من الموت، فشهداء الحرية سينتهون قتلى، والنازحون سيتم ترقيتهم إلى رتبة لاجئين دائمين، وإجتماعنا الوطني سينتهي إلى غالب ومغلوب.
عندما بدأ السورييون ثورتهم من درعا، كانوا يحلمون في إنجازها بدمشق ثورة وطنية مدنية ديمقراطية، يبدأون معها حياةً جديدة وبعيدة عن كل أشكال الموت المعمم في حياتهم، موت الكرامة، موت الحرية. كانوا يريدون الذهاب للحياة مجدداً، لم يخطئوا الهدف، من دمشق تبدأ الحياة، ومن خارجها ليس سوى إستمرار الموت، وإن بطرق مختلفة.