مفهومان متناقضان طبعا العقدين الأخيرين من القرن العشرين، الأول هو مفهوم quot;النهاياتquot;: نهاية التاريخ، نهاية الأيديولوجيا، نهاية الفلسفة، نهاية الدين ... الخ. والمفهوم الثاني هو quot;الصراعquot; بكل تجلياته وتلويناته: صدام الحضارات وصراع الهويات وحروب الأديان.

المفهوم الأخير بلوره quot;صمويل هنتنجتونquot; في مقاله المعنون بـquot;صدام الحضاراتquot; عام 1993، رداً علي المنظر المنافس في وزارة الخارجية الأمريكية، quot;فرانسيس فوكوياماquot; صاحب مفهوم quot;نهاية التاريخquot;، الذي سري سريان النار في الهشيم عقب تفكك الاتحاد السوفيتي السابق عام 1989، الذي بدا وكأنه انتصار ساحق للرأسمالية والديمقراطية الليبرالية.
بالنسبة إلي هنتنجتون، وضعت هزيمة الاتحاد السوفيتي حداً لجميع الخلافات الأيديولوجية لكنها لم تنه التاريخ، فالثقافة (وفي القلب منها الدين) وليست السياسة أو الاقتصاد، هي التي سوف تحكم العالم. والعالم ليس واحداً. quot;الحضارات توحد العالم وتقسمه. (الدم والإيمان)، هذا ما يؤمن به الناس ويقاتلون من أجلهquot;.
أما مفهوم quot;النهايةquot; عند quot;فوكوياماquot; فإنه يعني، من بين ما يعنيه، نهاية الصّراع الّذي كان يغذّي حركة التّاريخ داخل جدليّة السّيّد والعبد الهيجيليّة. وقد حُسم الصراع، بتعويض علاقة السّيّد والعبد باعتراف متبادل بين كلّ المواطنين في الدّولة الدّيمقراطيّة اللّيبراليّة. ولذلك كانت quot;نهاية التّاريخquot; مقترنة عنده بظهور الإنسان الأخير، أي الإنسان الحديث الّذي حُسم معه التّناقض الّذي كان موجودا في هذه العلاقة، وذلك يجعل العبيد القدامى أسياد أنفسهم.
المفارقة هنا، أنه لم تحدث quot;نهاية التّاريخquot; كما تنبّأ بها quot;هيجلquot; بوجود الدّولة اللّيبراليّة، كما أنها لم تتحقّق كما تكهّن بها ماركس بظهور المجتمع الشّيوعيّ، ناهيك عن أن مفهوم quot;نهاية الدينquot; كذّبته حركة الأحداث علي أكثر من صعيد، وآخرها ثورات ما يعرف بالربيع العربي 2011.
كيف؟
أولا: في الاتحاد السوفييتي السابق كان من المتصور أن الشيوعية قد انغرست إلى أمد طويل بعد استقرارها لأكثر من سبعة عقود، وأن الإيمان المسيحي الأرثوذكسي لم يعد سوى أثرا بعد عين، لكنه وقبل أن ينتهي القرن العشرين كانت الشيوعية قد سقطت كطعم يابس، وأخذ الحكام الروس الجدد يرتادون الكنائس من جديد.
وكما لاحظ المفكر اللبناني أمين معلوف في كتابه quot;اختلال العالمquot; فإن ما فعله سوكارنو في اندونيسيا، حيث جمع مفردات القومية والإسلام والشيوعية، وهو ما يعرف باللغة المحلية (مبدأ نازاكوم)، هذا الدمج التعسفي ما هو إلا لصق مصطنع ما لبث أن تفكك. فالقومية لم تنجح في أي مكان من العالم الإسلامي في استيعاب الدين ولكن الدين استوعبها لاحقاquot;.
ثانيا: في ظل اتجاه الفرد نحو العولمة والعالمية، أنغمس - في نفس اللحظة - في تحديد هويته وشخصيته، كرد فعل من ناحية وكإعادة اكتشاف للدين على أنه مستودع لهوية مهددة من ناحية ثانية. ففي نهاية القرن العشرين، شعر الأفراد والشعوب التي اجتثت جذورها - أو كادت - ولم تعد تجد في quot;الدولة القوميةquot; إطارًا لا ينازع للأمن والهوية، أنه لم يعد بمقدورهما الاستثمار في (الأيديولوجيات العلمانية)، أو الإيمان بأنها مصدر أساسي للتضامن والحماية في مواجهة تلاطم أمواج العولمة.
ثالثا: ما أن حرك الإرهاب في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وترا دينيا في صميم المجتمع العلماني، حتى امتلأت المعابد والكنائس والمساجد بالمصلين، وهذا التوافق الدفين لم يبحث بعد بما فيه الكفاية، حتي الآن.
العودة إلي الدين هنا، كما يقول quot; جاك دريدا quot;: quot;انبثقت أساسا من فكرة (العودة إلي الأصل)، بكل تجلياتهquot;، أو بالأحري انها العودة إلى نقاء الأصل والتطهير من التلوث الطارئ على الأصل من العالم، ومن تاريخهquot;.
رابعا: في فبراير 2011 وعقب تنحي الرئيس مبارك صدر تقرير علي درجة كبيرة من الأهمية من معهد واشنطن أكد علي ان ثورات شمال افريقيا ( أو جنوب المتوسط ) لا تمتلك ادواتها السياسية والمعرفية المحددة المعالم ، فضلا عن انها لا تمتلك أدوات طبقية تعبر عن رؤية أو برنامج اقتصادي اجتماعي نقيض، ناهيك عن أن القوي الدولية ( الرأسمالية ) لم تساندها مثلما حدث مع بلدان اوروبا الشرقية عقب تفكك الاتحاد السوفياتي السابق في التسعينيات من القرن العشرين.
لذا ظلت ثورات ما يعرف بالربيع العربي تحمل بين جنباتها معظم البني التقليدية القديمة نفسها :الدينية ndash; القبلية، وهو ما ظهر في انتخابات التعديلات الدستورية في مصر بدءا من ( 19 مارس 2011 )، وأكدته استطلاعات الرأي لمؤسسة quot; بيو quot; : 59 في المائة من المصريين يقفون الي جانب الاصولية الدينية في صراعها مع قوي الحداثة وان 41 في المائة لا يعتقدون بأن الديمقراطية هي افضل نظام للحكم وإنما quot; الشريعة quot; أو القانون الديني.
خامسا: بالتزامن مع نشر ( إيلاف ) للجزء الثاني من مقالي quot; الغاز : موجز تاريخ القرن الحادي والعشرين quot; تم الإعلان عن مشروع ( إقليم قناة السويس ) ndash; الذي أثار جدلا صاخبا لن يهدأ - وما أدراك وهذا المشروع quot; الخطير quot; في التقسيم الدولي الجديد! .. وهكذا تتضح خيوط لعبة الكبار شيئا فشيئا من تونس إلي سوريا مرورا بقناة السويس وسيناء، وكيف يتم توظيف quot; شهوة الحكم الديني quot; عند الإسلاميين في جنوب المتوسط لخدمة أطماع ndash; ليس فقط شمال المتوسط ndash; وإنما بالأحري quot; نصف الكرة الأرضية الشمالي quot;.