ما أن أعلن منذ شهور قليلة عن اتفاق تركي مع قائد حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، عنى وقف القتال والسير التدريجي نحو حل القضية الكردية في تركيا سلميا، حتى تسربت الأنباء وتتابعت عن نية نظام الفقيه تخريب الاتفاق. وقد أكدت تقارير عدة أن إيران عرضت على الزعيم العسكري للحزب الكردستاتي التركي، قره بلان، تزويده بأسلحة ثقيلة ومعدات متطورة أخرى مقابل التراجع عن اتفاق السلام هذا. ويظهر أن القيادي الكردي رفض الصفقة، فلجأت إيران لأساليب أخرى لتخريب الاتفاق.، وقد انعكس ذلك خاصة على حكام العراق وجميع الراقصين على دقات الطبل الإيراني، رافعين هذه المرة شعار السيادة الوطنية، التي تجاهلوها عندما كانت المدفعية الإيرانية تقصف يوميا، وعلى مدى شهور وأعوام، قرى كردستان العراق، وتفتك وتدمر. وهي السيادة التي يتناسونها حينما يقف جنرال القدس سليماني ليعلن بلغة مفهومة أن لإيران النفوذ المهيمن في العراق. كما تناسوها عندما هاجم السفير الإيراني الجديد، حال قدومه لبغداد و في مؤتمر صحفي، الصحافة والصحفيين، منذرا ومعربدا. أو عندما جاء وزير الاستخبارات مؤخرا ليعلن عن quot;تكامل امنيquot; مع العراق، بما في ذلك تشديد لتضيق المستمر على سكان معسكر ليبرتي العزل، وحجب الخدمات الطبية عنهم وتعريضهم لصواريخ البطاط، الذي يعلن بلا حياء بأن زعيمه ومرشده خامنئي.

ولكن ما القضية؟:
1 - معلوم أن في تركيا شعبا كرديا من خمسة عشر مليون، أي نصف تعداد أكراد المنطقة. هذا الشعب ظل محروما على مدى العقود من أبسط الحقوق، ومنها حق استعمال لغة الأم. والدستور التركي لا يعترف لحد اليوم بغير العرق التركي. وهذا الموقف التعسفي، وغالبا الدموي، من أكراد تركيا كان أكبر ثغرة في التجربة الكمالية التي كانت- مأخوذة بظروف العالم الإسلامي في العشرينات- ثورة فكرية وسياسية واجتماعية كبرى باتجاه الحداثة والعلمانية والديمقراطية. كان الموقف العنصري من القضيتين الأرمنية والكردية لا يشرف تلك التجربة الفريدة بل يضعفها ويهدد بنخرها تدريجيا. وقد أدت سياسة القهر بفريق مهم من المناضلين الأكراد إلى تشكيل حزب العمال الكردستاني وممارسة أساليب الكفاح المسلح ضد القوات التركية. وعلى مدى حوالي ثلاثين عاما أدت هذا الحرب لمقتل ما لا يقل عن 50000 شخص من المقاتلين والقوات التركية، وأحيانا من المدنيين. وكانت قوات من الكردستاني قد استقرت في المثلث الحدودي في جبال قنديل العراقية الذي يصعب اختراقه، والذي لم يخضع ولا يخضع لسلطة أي من الدول الثلاث: العراق وتركيا وإيران. وكان النظام العراقي الصدامي قد منح تركيا حق الرد العسكري داخل الأراضي العراقية في اتفاق خاص، وهو اتفاق لم تلغه حكومات ما بعد صدام.
2- في السنوات القليلة الماضية اضطر أردوغان وحكومته لاتخاذ بعض المبادرات باتجاه تسوية ما، ولكن الخطوات ظلت قاصرة. وأمام استمرار النزيف جرت مفاوضات في أوسلو ولكن لم تنجح. أما الاتفاق مع القائد الكردي السجين، فيفسر تركيا بمصاعب داخلية تركية، وبالوضع الإقليمي الخطر منذ الأزمة السورية، والتوتر مع إيران، وأيضا بحسابات أردوغان الانتخابية الذي يريد تغيير الدستور لكي يصبح النظام رئاسيا وهو يعتمد على أصوات النواب الأكراد القريبين من حزب أوجلان، كما يفسر أيضا بقناعة زعامة الحزب الكردستاني بأن طريق العمل المسلح لم يعد الطريق السليم لنيل الحقوق القومية.
3 -إن ما تسرب من معلومات عن الاتفاق يقول إن الطرفين اتفقا على السير المتدرج، وبدءا بتغييرات دستورية لصالح الأكراد، مقابل الانسحاب من تركيا مؤقتا. والاتفاق ينص على وقف القتال المسلح وتخلي المقاتلين عن السلاح، والانخراط مستقبلا في العمل السياسي السلمي. وهذا يعني- فيما يعنيه- أن مقاتلي قنديل لن يقوموا بأي عمل مسلح ضد تركيا، بل سيلقون السلاح ويعودون إلى بلدهم التركي. ولحد اليوم وصلت للمثلث المذكور من تركيا دفعتان من المقاتلين عددهم لا يتجاوز الأربعين.
4 ndash; أشارك المحللين والمعلقين الذين يرون أن أمام تنفيذ الاتفاق السلمي عقبات كبرى ، وخصوصا معارضة قوى التطرف العنصري التركية. وليس بدون دلالة هنا اغتيال الناشطات الكرديات التركيات الثلاث في باريس قبل شهور قلائل. كما هناك من يتشددون بين الأكراد أنفسهم. وفي الوقت نفسه، لم يبرهن أردوغان عمليا حتى اليوم على مدى مصداقيته في الوفاء بالالتزامات المترتبة على حكومته، علما بان الاستبيانات تقول إن ما لا يقل عن 51 بالمائة من الأتراك يرحبون بالاتفاق لتعيش تركيا حالة استقرار وطيد وتنصرف للتنمية الاقتصادية، فضلا عن أن حل القضية الكردية سيعزز الموقف الدولي لتركيا ويعطيها ورقة مهمة لتبرير طلب الانضمام للاتحاد الأوروبي.
5- لقد نشرنا مقالات عدة، في إيلاف وصحف أخرى، في نقد ممارسات وسياسات حكومة ارودغان الداخلية والإقليمية. انتقدنا نهج أسلمة السلطة والمجتمع والقضاء والتعليم والحملة المستمرة على الجيش، الذي هو أكبر حام لعلمانية أتاتورك. وانتقدنا وننتقد دعم الإخوان المسلمين في المنطقة بالمشاركة مع قطر، وبضوء أخضر من الإدارة الأميركية. وانتقدنا مسايرة إيران في فترة ما بما في ذلك المسايرة النووية، حتى انتهت فترة العسل مع الانفجار السوري وتصادم المواقف. وقد رأينا التفجيرات المهلكة مؤخرا داخل تركيا والمنسوبة للنظام السوري الذي تدعمه إيران بكل السبل والإمكانات، مستخدمة حكومة المالكي وثروات العراق وأجوائه، كما تستخدم حزب الله الذي يشن حربا في سورية ضد شعبها باسم حماية الأماكن المقدسة وكأنما نظام الأسد حامي الدين والمراقد الدينية وليس نظاما شموليا دمويا باسم القومية والوحدة والاشتراكية الزائفة. ولذاأيضا تريد إيران نسف الاتفاق لغرض إزعاج تركيا امنيا وبأمل استخدام فريق من أراد سوريا لصالح الأسد. وبينما تردد الدعاية الرسمية العراقية التخويف من فلول البعثيين العراقيين، وتنسب لهم وللقاعدة ما يجري من تفجيرات طائفية، فإنها تعجز عن الجواب على السؤال: quot; إذن لماذا تناصرون نظام البعث السوري، الذي كنتم تكررون مئات المرات سابقا بأنه يأوي ويحمي فلول البعث العراقي؟؟!!quot;
غير أنه برغم التحفظات على سياسات الحكومة التركية، فإن الموضوعية والحرص على سعادة الشعب التركي بكل مكوناته ورخاء تركيا، كما على سعادة وأمن شعوب المنطقة، تلزم بتأييد الاتفاق المذكور والعمل الإيجابي والضغط النزيه لكي يجري تنفيذه. وسيكون ذلك لصالح كل المنطقة، بما في ذلك العراق، وحينئذ لا تبقى أية ذريعة لا لشن عمليات مسلحة ضد تركيا من العراق تخل بالسيادة ولا للغارات التركية داخل أراضينا وهي في تصادم مع السيادة العراقية.
إن قضية الأمة الكردية المجزأة قضية عادلة وهي من الأمم النادرة التي لا تتمتع بأي من حقوقها باستثناء الشعب الكردي في إقليم كردستان العراق. وهذه الأمة عانت الكثير من أهوال الحروب والقمع العنصري الوحشي. وقد آن الأوان لتستريح آمنة في ظل حقوقها الديمقراطية التي تنادي بها المبادئ الديمقراطية والحقوق المثبتة للأمم والقوميات. وإذا كان القمع والحرمان الفظ من الحقوق قد دفعا بمقاتلي حزب العمال الكردستاني للكفاح المسلح، فإن هذا الطريق كان دوما محفوفا بالمخاطر الكبيرة. وسبق أن انتقدنا أساليب الكفاح المسلح برغم أن القمع الوحشي هو المسؤول عن دفع المناضلين لسلوك هذا الطريق الوعر والشائك، والذي يهدد بأن لا تفهمه أوساط مهمة من الرأي العام الدولي ولا تؤيده. ولذا يجب أن نثني بقوة على رجاحة تفكير وبصيرة الزعيم الكردي الكبير اوجلان، وأن نحييه في سجنه، ونطالب بإطلاق
سراحه كعربون عملي لحسن النوايا التركية ومصداقية النوايا والإرادة السلمية. وستكون تركيا أول الخاسرين لو تراجعت حكومتها لسبب من الأسباب عن التزاماتها، وهذا ما لا نتمناه.
ولابد أخيرا من التأكيد على رفض أية عملية عسكرية كردية ضد تركيا [أو غيرها] من أراضي العراق، فهي تزيد في توتر العلاقات بين البلدين وتخل بالسيادة العراقية. كما يجب إلغاء الاتفاقيات العراقية مع تركيا التي تبيح لتركيا حق الرد العسكري داخل العراق. ولنا ثقة بأن مقاتلي حزب العمال الكردستاني في قنديل سيلتزمون بتعليمات قائدهم ويتخلون عن أي عمل مسلح ضد تركيا، ويكونون عند حسن ظن قائدهم الأسير. أما الضجة الكبرى المثارة اليوم من جماعة القانون وبعض كبار رجال الدين الشيعة وكأن قدوم 40 مقاتلا جديدا يهدد أمن العراق، وطلب اللجوء لمجلس الأمن [ أين كنتم عند القصف الإيراني المتكرر؟!!!!]، فإنه لا يدعو للعجب ما دامت إيران هي الطرف الحقيقي وراء القضية. والسؤال:quot; أين كنتم هذه السنوات الطوال حينما كانت العمليات المسلحة ضد تركيا قائمة والغارات التركية داخل العراق مستمرة؟!!quot;
الحكمة تطلب أن يتم تطويق أية مشكلة جديدة في هذا الشأن بمساعي الحوار والتفاهم بين نركيا والعراق وبين حكومة الإقليم وأكراد تركيا المقاتلين. ولابد من طي هذه الصفحة الأليمة لمصلحة الجميع.