أصدق ما قيل في الأديان: إنها ثورات واسعة، ولا تقاس السعة في هذه الثورات بامتداد المكان، ولا بكثرة العدد.. لأنها أوسع ما تكون إذا نشأت في داخل النفس الإنسانية، وكانت القوة الثائرة والقوة المتغلبة فيها مملكة واحدة: هي مملكة الضمير.
ولا نهاية يومئذ لمظاهر التبديل والتغيير التي تتكشف بها الثورة في تلك المملكة الكبيرة، لأنها تلحق بكل ما تزاوله النفس من شؤونها الباطنة والظاهرة: تلحق بالأفكار والهواجس الخفية، تلحق بالعادات والأخلاق، وتلحق بالعرف والقانون، وتلحق بالنظم الإجتماعية والدساتير الحكومية، وتلحق بالحاكمين والمحكومين، وتلحق بكل مملكة لأنها لحقت قبل ذلك بتلك المملكة الصغيرة الكبيرة، (مملكة الضمير).
bull; لأن الإنسان هو نفسه لم يكن عاماً فيوليه الدين حقوقاً عامة، وإنما ولد هذا الإنسان ndash; العام ndash; يوم آمن الناس بمرجعية يتساوى فيها كل إنسان مع أخيه الانسان، وإن اختلقت مسميات تلك المرجعية!!.. يوم أنيطت حقوقه بواجباته بغير تفرقة بين هذا وذاك..
فمن تحصيل الحاصل أن يقال: إن حقوق الإنسان لم تكن منظورة من ثورة دينية، قبل ثورة الدين الذي دعا الناس إلى عبادة رب، فإنما توجد الحقوق العامة إذا وجد صاحبها الذي يستحقها، ويؤدي لها فرائضها، ولم يوجد لهذه الحقوق صاحب مطلع بها في ثورة دينية قبل ثورات ودعوات الايمان بالمرجعية التي أشرنا إليها..
على أننا نرجع إلى تاريخ الثورات الإجتماعية أو السياسية قبل الإيمان بمرجعية سماوية، فلا نراها قد خالفت الثورات الدينية المعاصرة لها في شيء من حيث اهتمامها بالانسان فوق الأرض، ولا نرى بينها حركة يصدق عليها أنها حركة (حقوق إنسانية) بمعنى من معاني هذه العبارة، كما نفهمها في العصر الراهن، فربما كان بينها ما يسمونه بحركات الديموقراطية في بلاد اليونان، وربما بدا لهم من كلمة الديموقرطية أنها من حركات الشعوب.. فهي على هذا خليقة أن تحسب من حركات الحقوق الإنسانية، وليست هي كذلك حتى في دلالتها اللفظية التي نشأ منها الخطأ في فهم حقيقتها: لأن كلمة (ديموس) اليونانية كانت تطلق على المنطقة التي تسكنها القبيلة، ثم أطلق النظام الديموقراطي عندهم على الحكومة التي تشترك القبائل في إنتخابها.. ولم يكن إشتراكها في الانتخابات إعترافاً بحق إنسان يتساوى فيه مع أخيه الانسان، وإنما كان إعترافاً بالقبيلة وإتقاءً لمعارضتها، وإضرابها عن العمل في الجيش وتلبية نفير الدفاع.
وقد توالت على اليونان والرومان أنواع من الحكومات الديموقراطية لم يكن لها من مبدأ تقوم عليه، غير أنها خطط عملية لاستتباب الأمن واستجلاب الولاء من المجندين للجيش والأسطول من أبناء القبائل وأصحاب الصناعات..
آية ذلك أن الحكومة الديموقراطية نشأت بين الإسبرطيين أصحاب النظم والإجراءات الإدارية ولم تنشأ بين الأثينين أصحاب الفلسفات والبحوث النظرية، وليس هذا بمستغرب من اليونان الأقدمين إذا نظرنا إلى حقوق الإنتخاب في الديموقراطيات الغربية في الزمن الراهن.. فإن هذا الحق كان يتدرج في التعميم على حسب الحاجة إلى الناخبين في مصانع الحرب وفي جيوش المقاتلين، فناله العمال في البلاد الصناعية قبل أن يناله الزراع.. ونالته المرأة بعد أن أصبحت عاملة في المصانع تنوب فيها عن الجند المقاتلين، وناله السود في أمريكا بعد إضطرار الدولة إلى خدمتهم في المصانع وفي الجيوش على التدريج بين الحربين العالميتين.
غير أن هذا ولا ريب كان هو المقصود بالديموقراطية الإنسانية، وليست خططاً عملية يأتي بها تكافؤ القوى بين الطوائف وجماهير الناخبين..
وليست هي الديموقراطية الإنسانية مما يتصور، بغير عناصرها الثلاثة التي لا إنفصال بينها وهي: المساواة، والمسؤولية الفردية، وقيام الحكم على الشورى، أو على دستور معلوم من الحدود والتبعات، وهذه العناصر الثلاثة التي نادت بها الثورات الدينية التي استندت في مناداتها الى المرجعية الغيبية فيما بعد، والتي استُغلت من الكهنوتين ومن لديهم سلطة الاستيلاء على الدول، على حساب الغالبية العظمى من الناس!!..
* * *
bull; إذا سلمنا ndash; ولا نملك غير التسليم بما ورد آنفاً ndash; فإن الصورة التي عشناها والتي عمت كوكبنا مضمخة ليس بدماء الكراهية فحسب، وإنما جعلت من حياة البشر بسبب هذه المرجعيات الغيبية وكأنها لا تقوم قيامتها لتحقيق أهدافها، إلا بالدم والكراهية والتباغض، بل وما هو أكثر من ذلك مما تجسد في التاريخ الدموي للانسان المؤمن في مواجهته لأخيه الانسان الذي يستند مثله الى نفس تلك المرجعية الغيبية.
فتاريخ الحروب والدماء كلها تؤكد كراهية الانسان المتدين للانسان المتدين!!.. فاحتكم كل منهما الى حالات التعصب التي استنها لنفسه من خلال العقيدة التي يؤمن بها أياً كان مسماها، فأخذ يواجه من يراهم أعداءً له ليفرض عليهم بكل أشكال القوة ما يؤمن به هو!!.. فأين الخطأ؟!.. سؤال ما برح الانسان يبحث له عن إجابة!!..
* * *
bull; كلمة صغيرة لمن سيشمرون عن سواعدهم للتعليق: لست كارهاً لأحد بسبب ما يؤمن به من عقيدة، أو ما يطرحه من أفكار، وما طرحته آنفاً ينسجم تماماً مع ما أؤمن به، و(الأنسنة) هي الشعار الذي أرفعه في اجتهاداتي المتواضعة فيما أكتب!!.. فليوفروا على أنفسهم إلصاق التهم وليرتفعوا الى مستوى (الأنسنة) في تعليقاتهم!!.. فلست ضد أحد ممن يعتنقون أية عقيدة كانت، حتى ولو كانت عبادة النمل ndash; على حد تعبير الدكتور محمود الدراويش - ولا محرضاً طائفياً كما يحلو للبعض أن يتوهموا بتصديق مثل هذه الأوهام!!.
التعليقات