bull; وإن شك البعض في الأبيات الشعرية التي كتبها الشاعر حافظ إبراهيم، إلا أنها لازالت حتى الساعة محفورة على لوحة من المرمر، كشاهد لقبر عبد الرحمن الكواكبي.
هنا رجل الدنيا مهبط التُقي ... هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب
قفوا، واقرأوا أم الكتاب وسلمّوا ... عليه فهذا القبر، قبر الكواكبي
والذين يشككون بنسبة هذين البيتين لحافظ إبراهيم، يرون فيهما دون إمكانياته الشعرية، كما أنها أبيات متواضعة إذا ما قورنت بمكانة الكواكبي.
وهناك من يرى أن الأتراك قد إستبدلوا قصيدة حافظ إبراهيم بهذين البيتين الفاترين الذين يشبه نظمهما شعر المبتدئين في نظم القوافي.
bull; فعبد الرحمن الكواكبي الذي ولد في حلب في (1848. 10. 2)، والذي يعد من أبطال الكفاح الوطني من أجل الحرية والإستقلال، والذي ألف مجموعة من الكتب، من أهمها : (أم القرى)، و (طبائع الإستبداد).
اعتُبر المعارض الأول للحكم العثماني الذي يُصرُ هو على تسميته بالإستعمار العثماني.. وليس هذا فحسب بل إنه يقول :
quot; لولا هذا الإستعمار، لكان لهذه المنطقة العربية شأن آخر، يختلف عما هي عليه الآن!!.. ولست أغالي إذا قلت أنه كان في إستطاعة البلاد العربية، أن تقفز قفزة حضارية، تسبق بها الحضارة الغربية لولا اللجام الذي لجمتنا به الدولة العثمانية، ونير الفقر والجهل، والمرض، الذي وضعته على أعناقنا.. quot;
bull; فكتابا الكواكبي (طبائع الإستبداد)، و(أم القرى)، هَدَف فيما أورده فيهما بالأساس إلى مقاومة ظلم الدولة العثمانية.
bull; والغريب أنه لم ينشرهما إلا في السنوات الأخيرة من حياته نظراً لصعوبة نشرهما، وما يحملانه من عداء للدولة العثمانية في ذلك الوقت!.. أما الدوافع التي جعلته يتأخر في نشرهما، هي الصدامات التي بدأت في حلب بينه وبين وزير الباب العالي.
* * *
bull; (أبي الهدى الصيادي)، الذي أوصل له جواسيسه وهو في الأستانة أخباراً مفادها أن المدرسة الكواكبية في حلب تلقن تلاميذها أفكاراً خطيرة!!
وأبو الهدى هذا كان يعتبر نفسه من أشراف أهالي حلب ويرى أنه أحق بنقابة الأشراف فيها من أحمد الكواكبي، فانتزع فرماناً من السلطان الأعظم ينزع بموجبه نقابة الأشراف من الكواكبي.
وما أن صدر ذلك الفرمان، حتى تصدى له الإبن عبد الرحمن في عنف، حيث يكتب :
quot; نقابة الأشراف في حلب، ليس هناك من يستحقها سوانا، ولا يجوز للباب العالي أن يسحبها منا بفرمان، لأن هذا يجافي الشرع، ولا يقره الإسلام، ولا التقاليد.. quot;
bull; وتدوي صرخات عبد الرحمن الكواكبي، وتلقى صداها عند الغالبية العظمى من أهل حلب.. فينصح عارف باشا ndash; عامل والي حلب ndash; ينصح الباب العالي بالتروي في أمر أسرة الكواكبي، فأهالي حلب سيقفون إلى جانبهم.. وطلب من السلطان أن يطلق يده كي يتعامل مع الموقف على طريقته الخاصة..
وكان عارف باشا ماكراً أشد المكر، فظن أنه لو عهد لعبد الرحمن الكواكبي بوظيفة حكومية مرموقة، لا يلبث أن يقيده ويلزمه بإطاعة الموظف لرئيسه، فأصدر قراراً بتعيينه محرراً لجريدة (فرات).. لكن القلم الحر.. أبى أن يتقيد بالوظيفة الرسمية، فكتب في الجريدة التي يفترض أنها حكومية، تعبر عن الرأي الرسمي، بل إنها المعبرة عن رأي الباب العالي التالي :
quot; الأحوال في حلب بالغة السوء.. وإذا كانت هذه الجريدة قد إعتادت على نشر قوانين الضرائب، ومراسيم إنشاء الشوارع، ورسومات الجبّانات، فمن حقها أيضاً أن تتقدم إلى الوالي عارف باشا بهذه الإقتراحات التي نراها في صالح الأهالي..
وأولها : نقترح أن تكون هناك لجان للرقابة على أموال الأوقاف.. ؟! quot;
وكان عارف باشا يتمتع بنفسٍ طويل، وروح ماكرة، فأصدر فوراً قراراً عجيباً بعد أن قرأ ما كتبه عبد الرحمن.. وقد نص القرار على التالي :
(أمرنا بنقل الموظف عبد الرحمن الكواكبي إلى وظيفة مفتش إحتكار تجارة التبغ.)
bull; وهذه الوظيفة ما عيُّن فيها أحد، إلا وملأ جيوبه وجيوب أهله وأنصاره من مال الحرام والسحت..
أدرك الكواكبي اللعبة، بعد أن تبين له أن عارف باشا يريد أن يورطه بهذه الوظيفة كي يوجه إليه تهمة الرشوة والفساد، وإختلاس المال العام!!
لكن الكوكبي عكف على دراسة أحوال إدارة إحتكار التبغ، وذهب بتلك الدراسة إلى الوالي الذي فوجأ بعدد حجم الصفحات، فأبدى عدم التمكن من قدرته على قرائتها وقال للكواكبي :
- دعنا من الورق واذكر لي مقترحاتك، فإذا كانت مفيدة، أخذنا بها..!!
- يا سيدي.. مامن رجل تولى وظيفتي هذه، إلا وإتُهم بالسرقة، وإختلاس المال العام.. وهذا يحدث دائماً بسبب الضعف في الرقابة..
- وهل لديك ما يسد ثغرات الرقابة ؟!
- بالطبع.. الذي أعلمه يا سيدي هو أنك صاحب الحق الوحيد في مراقبة المفتش!.. والذي أعلمه أيضاً أنه ما من مفتش فُصل من وظيفته بتهمة الرشوة والفساد إلا وأطلق الشائعات بأنك كنت تتستر عليه!!..
- بلا شك أنك تدري أنها شائعات كاذبة، وفيها بهتان.. فماذا تقترح ؟!
- أقترح أن أحميك من الشائعات، بأن أشتري كل التبغ ثم أبيعه لحسابي، وأدفع ثمنه كاملاً قبل بيعه!!
bull; فوافق عارف باشا على الإقتراح معتقداً بأن عبد الرحمن الكوكبي قد وضع بيده حبل المشنقة حول عنقه!!.. وكان يضمر ويخطط إلى أن يتهمه بإختلاس المال العام، وسرقة الولاية، لأنه يعلم أن الكواكبي سيحصد أرباحاً كبيرة من الصفقة تمهد إلى إدخاله في شرك الورطة ليوقعه في البئر الذي حفره له، وساهم به الكواكبي بنفسه..!!
bull; في نهاية الموسم جاء الكوكبي إلى عارف باشا، حاملاً ثمن التبغ كله بزيادة قدرها 200% وقال له :
- هل أدركت الآن من يسرق جهد الفلاحين ؟!
- وهل ستأخذ يا عبد الرحمن هذه الفوائد كلها لنفسك ؟!
- أليس هذا هو الإتفاق بيني وبينك ؟!
- لا مانع في تنفيذ الإتفاق، ولكن أليس أنا الذي أعطيتك ذلك الإحتكار ؟!.. فهل يعقل أن تحصد كل هذ الربح لك وحدك ؟!
- يا عارف باشا، سأسلمك ما تريد مني من مال في محضر يتكون من جميع مشايخ حلب..!!
- لماذا مشايخ حلب، والإتفاق تم بيني وبينك، وأنت قد دفعت الثمن كله قبل بيع التبغ ؟!
- يا عارف باشا.. إن هذا المال ليس من حقك، ولا من حقي، إنه من حق خزانة الولاية ليصرف على مطلوبات الأهالي، وأنا لن أمسْ مجيدياً واحداً منه..
- إذن لماذا إتفقت معي ؟!
- لأثبت لك أن جميع موظفي الإدارة كانوا لصوصاً، ويحميهم لصٌ كبير!!
bull; وخاب أمل عارف باشا بعد هذه الفضيحة فعزلته الدولة العثمانية عن ولاية حلب، وفي نفس الوقت ضيَّقت الخناق على عبد الرحمن الكواكبي، حيث فصلته من جميع وظائفه، وقامت بإغلاق المدرسة الكواكبية، مما جعله يحظى بإعتزاز مواطنيه، وإلتفافهم حوله، مما جعل السلطة العثمانية تترصده، فنصحه أصدقاؤه بالهرب قبل أن يفتكوا به.. ففرَّ إلى مصر.
* * *
bull; في مصر تعرف الكواكبي على قادة الرأي الجديد ممن ينادون بالإستقلال عن نفوذ الدولة العثمانية، والتخلص من كل سيطرة أجنبية.. التقى بـ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ الشرقاوي، وعرابي باشا.. كما التقى بمواطنه محمد كرد علي، صاحب جريدة (المؤيد) التي بدأ الكواكبي ينشر فيها مقالاته النارية، مما جعل عيون السلطان عبد الحميد تبعث إلى الأستانة بتقاريرها التي حذرت من خطر الكواكبي، واعتبرته لا يقل خطورة في أفكاره عن جمال الدين الأفغاني.. وهناك من إقترح أن موت الأفغاني أحاطته الشبهات من أنه مات مسموماً في إسطنبول.. فلم لا يتبعه الكواكبي في القاهرة ؟!..
bull; وبدأت الخطط تُحاك في كيفية الفتك بالمصلح الجريء عبد الرحمن الكواكبي!! فكأن يأتيه أحد كبار الشخصيات الرسمية في مصر ليقول له :
- يا شيخ عبد الرحمن.. الأمور لا تستقيم هكذا، وقلب السلطان غير راضٍ عنك، ولهذا فإني أقترح عليك أن تذهب إلى الأستانة، وتقابل السلطان، وتعرض عليه إقتراحاتك الرامية إلى تحسين أحوال المسلمين!!
- أولم يستدعي السلطان أخانا الأفغاني لكي يقدم مقترحاته ؟!.. فماذا كانت النتيجة ؟! ألم يَمُت مسموماً ؟!
- لا تقل هذا يا كواكبي، والأفغاني لم يمت مسموماً.. وأنا أرى أن تسافر معي إلى الأستانة..!!
bull; لكن الشيخ كرد علي ينصحه بعدم الذهاب إلى الأستانة، وإن أبا الهدى يترصد به الدوائر، فلو علم بوجوده في إسطنبول، لما تركه حيّاً.. إلا أن الكوكبي يجيب صديقه الشيخ كرد علي :
- والله يداعبني الأمل يا شيخ كرد في إصلاح السلطان نفسه.. فلو أنه استمع إلى مشروعاتي في الإصلاح، لكان ذلك دفعة قوية لحرية العالم العربي بأسره..
- لا تعانق الأفعى يا كواكبي، ثم لا تنس أن السلطان عبد الحميد لن ينسى لك ما كتبته عن مقابلته مع أحد الصحفيين الفرنسيين الذي سأله :
quot; لماذا لا تعتني أيها السلطان بتعليم الشعب المسلم ؟! quot;
فكانت إجابته أن المسلمين إذا تعلموا، صار من الصعب عليّ أن أحكمهم!!.. فلن ينس عبد الحميد تعليقك الناري على إجابته تلك!!..
* * *
bull; أخذت عيون السلطان عبد الحميد تترصد خطوات الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، إلى أن تمكنوا من رسم خارطة لكل تحركاته، وفي يوم من الأيام دُعي إلى حفلٍ كان فيه نفس ذلك المسؤول الذي نصحه بالذهاب إلى الأستانة.. ولما عاد إلى بيته عقب ذلك الحفل.. أحسَّ بألم في ذراعه، وصداع شديد يكاد يفجر جمجمة رأسه من شدة الألم..
وفي بيته في حي الحسين.. رقد في فراشه، وفي سرعة مذهلة فعل السم الذي شخَّصه الأطباء فيما بعد فعلته..
* * *
bull; وكانت جنازة مهيبة تتخللها صرخات مصدرها ولده.. مات أبي..!! مات أبي..!! فيحتضنه الشيخ محمد كرد علي، ويصلي على الجنازة الشيخ محمد عبده.. ودفن في جبَّانة في مصر تكاد السنين أن تمسح آثار قبره، مع أن كلمات من يرقد فيه قد أنارت الطريق للأحرار في كل البلاد العربية والإسلامية..
رحم الله من صاغ هذين البيتين البسيطين من الشعر، إذ لولاهما لمسحت آثار القبر تماماً :
هنا رجل الدنيا، مهبط التُقى .. هنا خير مظلوم، هنا خير كاتب
قفوا وإقرؤا أم الكتاب وسلموا .. عليه فهذا القبر، قبر الكواكبي