يبدو أن الأزمات السياسية في وطننا العربي قد أخذت منا في الأسابيع الماضية كلما جادت به القريحة، والذي يبدو أيضاً أن هذه الأزمات ستستمر الى وقت ليس بقصير!!.. فهل سنبقى أسرى لهذه المناخات المشحونة بالآلام المتدفقة في كل ما نكتبه، ويشارك به معظم زملاء (كتاب اليوم) في ايلاف؟!.. أجدني مضطراً للركون الى محطة استراحة فنية، ولنبدأ بأعظم فنان معاصر، إذ أن أقل لوحة له في أي مزاد لا تقل عن عشرات الملايين!!.. ترى كيف هي كانت بداية بابلو بيكاسو؟!.. وليس الكتابة عنه في هذا المقال قد جاءت بمحض الصدفة، وإنما لأنه قد مضى على وفاته أربعة عقود، حرصت في هذا المقال ألا يكون الحديث عن بيكاسو مكرراً، إذ أن الدراسات الفنية التي كُتبت عنه تضمنتها المجلدات تلو المجلدات، فاستخلصت منها هذه اللمحات من حياته!!..

* * *
bull; 25\ 10\1881.. وُلد في مثل هذا اليوم ولا أريد ازعاجكم بكتابة اسمه، فهو اسم طويل عريض.. كطول وعرض شهرة صاحبه المدوية.. يبدأ بكلمة بابلو، وينتهي بكلمة رويز، وبينهم ثمانية أسماء في غاية التعقيد.. أما من أطلق عليه اسمه الذي عُرف به، فبيكاسو يقول :
- الكاتبة الامريكية جروترد ستين.. وستين هذه هي أول كاتبة سيريالية في العالم.. قالت لي مرةً وهي تقف أمامي لأرسمها :
- ما هذا الهراء الذي ترسمه يا بابلو هل أنا بهذا القبح؟
- عجيب، لقد صورت جولييت كسلحفاة وروميو كأرنب في قصتك quot; آه من الزواجquot; فلما تعترضين على ما أرسم؟
- أنت اذن لم تفهم قصتي؟
- لعلي الوحيد الذي فهمها.. قصدت أن روميو كان يهرب من الزواج بسرعة الارنب، بينما تهرب منه جولييت ببطء السلحفاة..
- لا.. لم أقصد هذا!!..
- أعتقد أنكِ لم تقصدي شيئاً على الاطلاق.. انما هي ألفاظٌ توجعك في رأسك فاخرجتيها على الورق في أي صورة!!
- اسمع يا بابلو..فسر لي لماذا رسمتني مجردَ خطوطٍ متعارضة قبيحة؟
- لأن الألفاظ والمعاني في رأسك متعارضة، ولا تعبر عن ما في هذه الدنيا من جمال!!.. القبح يا سيدتي ميزة فنكِ..
- القبح ادعى الى أن نبرزه للناس لينفروا منه.. خذ اسمك مثلا طويل عريض، لا يكاد يُفهم، اسم من هنا، واسم من هناك.. لو جمعنا حروفاً لا تعني في مجموعها شيئاً لخرجنا باسمٍ قبيحٍ ولكن لها مدلول، هو هذا الجمال الذى ترسمه في لوحاتك..
- اختاري لي أقبح اسم!!
- بابلو مثلاً، نأخذ منه الحرف الاول quot; الباء quot; ثم من كل اسم يليه نأخذ حرفاً آخر.. وننتهي quot;بالواوquot; من اسم رويز..(ضاحكةً).. أتعرف بالنهاية ماذا سيكون اسمك؟!..
- (بعد تفكير) بيكاتروا؟
- بل بيكاسو.. السين في quot; سانتيسينماتوquot;.. لها رنين خاص، اخترتها بدلاً من quot; التاء quot; في quot; ترينداد quot;.. لا بأس باسم بيكاسو، اسم قبيح على أي حال ولا معنى له وسيكون معناه من الآن الرسام المجنون!!
- لا أعرف أن كلمة بيكاسو لها هذا المعنى في أي لغة من لغات الدنيا!!
- آن لنا يا عزيزي نحن أصحاب مدرسة الفن السريالي والتكعيبي والتجريدي، وقبل هذا وذاك الانطباعي.. أن تكون لنا لغة خاصة.. أولها كلمة (بيكاسو).. ولا تنسى أن توقع على هذه اللوحة باسمك الجديد.
***
bull; ولد بيكاسو من أبوين فقيرين، أمضى سنوات طفولته ومراهقته في برشلونة.. كتب عن تلك المرحلة يقول :
quot; كان من الحتمي أن أكون رساماً.. فقد كان أبي مدرساً للرسم في إحدى المدارس الثانوية، ونحن الاسبان لنا تقاليد صارمة، أولها أن يرث الابن صنعة أبيه.. أخذني الى مدرسة الفنون الجميلة، وقدمني الى الاستاذ الذي عُهد اليه بامتحاني ليتم قيدي بالمدرسة.. واذا بالاستاذ يقول :
- اذن هو ولدك يا روبيز!!
- اجل يا استاذ..
- لا تطمع في أن يغدوا فناناً.. ثيابه هذه تقليدية، لا توحي بأنه على استعداد للابداع، وانتاج اشياء جديدة (في دهشة!!) يا الهي!! ماذا تفعل يا فتى!!؟؟.. لماذا تخلع ثيابك كلها.. أما تخجل وأمامك في لجنة الامتحان فتيات وسيدات؟؟!!
- لتعرف يا أستاذ أني لست تقليدياً!!..
- عليك اللعنة ارتدي ثيابك، ارتديها بسرعة.. لقد أنجبت ولداً مجنوناً يا روبيز!!
bull; وقبلوه دون امتحان.. لكن الاستاذ قال له :
- اسمع يا بابلوا.. لقد اعفيتك من امتحان القبول ولكن هناك فترة اختبار اجبارية مدتها عشرة ايام.. سنعطيك حجرة في المدرسة لاقامتك، وبعض الفرشات وأقمشة اللوحات، ويجب أن ترسم عليها ما تشاء ثم تقدمها في النهاية الى لجنة الاختبار النهائي..
وبعد انتهاء الأيام العشرة.. ذهب بابلو الى الاستاذ:
- أين لوحاتك أيها الأبله؟
- في الغرفة يا أستاذ..
- ألا تعرف أنه عليك أن تحملها إليّ هنا؟
- لا أستطيع ان أحملها يا استاذ!!
- ولماذا؟
- لأنها ثقيلة جداً..
- خذ أحد العمال يحملها لك..
- لا أحد يستطيع ذلك..
- أنت مجنون دون ريب..
- اذا كنت لا تصدقني يا أستاذ.. تعال معي الى الغرفة.
وصعدت اللجنة كلها نحو الغرفة.. كانت اللوحات كما هي بيضاء..!! لكن الاستاذ صاح :
- يا إلهي.. ما هذا يا بابلو!!.. لقد رسمت لوحاتك على جدران الغرفة!!.. بل على
السرير!!.. بل على الدولاب!!.. وعلى زجاج النافذة!!.. وهذه على مصباح السقف!!..
يا إلهي والسقف أيضاً!!
- واذا رفعت السجادة سترى ثلاثة لوحات أخرى يا أستاذ!!..
- على أرضية الغرفة؟!.. هذه لوحات عجيبة وجديدة أيضاً!!.. هذه مثلاً على الباب ماذا أسميتها؟
- أسميتها (الاستاذ اونجانو).
- انا؟ انا؟.. هذا جواد جامح أو حمار!!
- بل هو بغل يا أستاذ..
- أنت لا تحسن اختيار ألفاظك يا بابلو ولكنك يا ولدي فنان عظيم..
***
bull; إن تلك الغرفة لا تزال كما هي، وجعلتها الحكومة الاسبانية متحفاً من بين متاحف بيكاسو العديدة..
وقد تقدم أحد الأثرياء بعرض شراء المدرسة كلها من أجل هذه اللوحات، لكن الحكومة الاسبانية رفضت.. حكومة الملك ألفونسوا وكذلك حكومة فرانكوا رفضت هي الأخرى.
bull; وصار بيكاسو أشهر رسامٍ في العالم.. وكان في باريس حين ظهرت بوادر الحرب الأهلية.. ولم يكن يحب فرانكوا وما يمثله من مبادئ دكتاتورية.. فانضم الى صفوف الملك الفونسوا ضد فرانكوا.. والعجيب أنه صادف تحت القنابل ودوي المدافع أقرب أحبائه وأصدقائه.. وأبعدهم عن ما يؤمن به من مبادئ في نفس الوقت.. مثل الكاتب الامريكي quot; أرنست هامنغواي quot; الذي كان يحارب في صفوف الثوار..
وحدث أن ظروف الحرب ألقت بالرسام بيكاسو في بيت مهجور يجلس بين أنقاضه قناص لا يمكن لأحد الاقتراب من مكانه.. ولما فرغ ما معه من رصاص، هجم كالوحش الهائج يريد أن يخنقه بيديه العاريتين وفجأةً وقف دون حراك!! لماذا؟.. لأنه شاهد رسماً كان بيكاسو رسمه على صخرة بسن السونكي، فوقف يتأملها في دهشةٍ واعجاب.. وبعد لحظات واذا بالعدوين المتقاتلين يتحدثان عن الفن!!..
ثم يتوجهه هامنغواي بسؤالٍ إلى بيكاسو :
- أتعتقد أن قواتنا ستستولي على القنطرة؟
- ربما!!
- يا إلهي.. إذن فأنت بيكاسو؟
- وأنت هامنغواي؟ كيف لم نتقابل في باريس، وكلٌ منا له فيها غزوات فنية وعاطفية؟!.. أليس من العجيب أن نتقابل في هذا المكان؟..
- هذا أنسب لطبيعتنا (يضحكان).. أتعرف لقد كنت أريد أن أخطف منك صديقتك جروتورد ستين.. ولكن كنت مشغول بالأميرة التركية.. أنت أنسب لستين لأنها تحب الجنون في الفن مثلك..
- يمكنك أن تقتلني لتفوز بها..إنها فرصتك!!
- ربما أفعل ذلك، ولكن ليس قبل أن توضح لي أسلوبك في الرسم العجيب الذي يسمونه الفن التكعيبي؟!
- أنا الذي أسميته هكذا!!
- ولماذا تكعيبي على وجه الخصوص؟
- لأن مهمة الفنان الجديد أن يفقه عين المجتمع اللاهي بصور البئس الانساني.. اذا كانت لوحاتي تحتوي على رموز وتوريات، فإني أردت بها أن أعبر عن بئس الدنيا التي نعيش فيها وعن حبنا العميق للانسانية.. أوتعرف يا أرنست.. أسلوبك في الكتابة هو أقرب ما يكون الى أسلوبي في الرسم؟!
- ربما.. أحياناً أعبر عما أريد بكلماتٍ ليست في القواميس التقليدية.. أشتق ألفاظها من معانيها في الطبيعة ومن داخل الغابة الغامضة التي نسميها quot; أغوار النفس البشرية quot; مثلك تماماً يا بيكاسو فأنت تستخدم في لوحاتك قصاصات ورق الصحف ونتف من القماش وال..... وال.....
- (ضاحكاً) ورملٍ وزجاجٍ وخشبٍ، وأحياناً أسكب زجاجة الحبر على مكعب من مكعبات اللوحة.. يقولون أنه جنون ولكنهم لا يفهمون!!..
- سيكون لي معك حوار طويل بعد أن تنتهي هذه الحرب.. بودي لو أستطيع أن أحمل هذه الصخرة التي استخدمتها كاللوحة وآخذها معي.. من المؤسف أن أحدنا قد يقتل زميله في أي معركة قادمة...!!
- أرنست أنا عندي اقتراح : لنحارب لفترة في سبيل الفن، ونعمل على انقاذ الأعمال الفنية في منطقة الأندلس قبل أن تتحطم أو تحترق..
- بيكاسو.. أنت فنان أصيل حقاً!!..
***
bull; للعجائب والغرائب في حياة هذا الفنان الذي مر بالمرحلة الزرقاء، فالتكعيبية، فالتأثيرية، فالتجريدية، وأيضاً له عدد من اللوحات السيريالية.. أقول للعجائب والغرائب في حياة بابلو بيكاسو الكثير مما يقال.. فلوحاته هي الأكثر سعراً والأكثر مبيعاً في أسواق الفن العالمية.
* * *
bull; أكتفي بهذا القدر الموجز للمحاتٍ قصيرة من حياة هذا الفنان الطويلة العريضة والمليئة بالأحداث، فبابلو بيكاسو الذي تُزين لوحته (الجرنيكا) جدران إحدى قاعات الأمم المتحدة في نيويورك دليلاً على تعبيره الصادق لمآسي الحروب.. بابلو بيكاسو في هذه المقالة سيسبب لي إشكالية عند المعلقين الذين يجهلونه، ولكن شدة احتمالي على مصائب التعليقات قد أكسبتني مناعة حصنت أعصابي من الوقوع تحت تأثير الكوارث والنكبات.. وما أكثرها!!.