لم تكن المرة الوحيدة التي تصل فيها لامنطقة إلى حافة الهاوية في علاقة الولايات المتحدة بإيران، ثم ما تلبث أن تهب نسمات التفاؤل والتبريد بين الجانبين. فالايرانيون هم المبادرون إلى مثل هذا التبريد الإقليمي، نظراً لحاجتهم القصوى لخرق جدار العقوبات والضغوطات التي تفرضها واشنطن، مع تضامن بعض العواصم الغربية، ثم الظهور كدولة مؤثرة وقوية في المنطقة. وفي كل مرة، يتقدم الإيرانيون بخطوة نحو الحوار مع امريكا تحت شعار يتجاوز البعد السياسي، ففي التجربة (الخاتمية)، رفع الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي الذي تولّى الرئاسة خلفاً لرفسنجاني 1996، شعار quot;حوار الحضاراتquot;، ومن خلاله فتح أبواب الحوار مع الغرب، ليكون أحد هذه الابواب باتجاه واشنطن، لكن اسباب عدة حالت دون وصوله الى مبتغاه، ابرزها جماعات الضغط في كلا البلدين، ممن رأوا في هذه المحاولة، خطوة غير ناضجة.
أما الشعار الجديد الذي حمله الرئيس الجديد، حسن روحاني، فقد أطلقه من إحدى ابرز الصحف الامريكية القريبة على مراكز القرار، وهي quot;واشطن بوستquot;، فتحت عنوان quot;لماذا تطمح إيران لمشاركة بناءةquot;، كتب الرئيس الإيراني حسن روحاني مقالاً في صحيفة واشنطن بوست الامريكية، قال فيه: quot;قبل ثلاثة أشهر، تفاءل الإيرانيون بالسياسة الجديدة التي اتبعتها، والتي تعتمد على الأمل والتعقّل، فأنا أطمح للوفاء بعهودي، ومن بينها السعي من أجل حوار بناء مع العالمquot;.
هذا quot;الحوار البنّاءquot; وطبيعة الرسالة الايرانية الجديدة، دفع المراقبين والمهتمين بالعلاقات الايرانية ndash; الامريكية، الى التساؤل عما اذا كانت هذه المحاولة، تمثل ربيعاً عابراً كالذي شهدته العلاقات بين البلدين في تسعينات القرن الماضي، أم إنها تنبئ عن وجود خطّة استراتيجية للتحول ذات أبعاد اقليمية و دولية؟
الشواهد والقرائن على كون الخطوة الجديدة مجرد تكتيك آني، فالاقتصاد الايراني يتعرض الى ضغوط شديدة انعكست بشكل مؤلم على الوضع الاجتماعي، وفي مقدمتها حقل النفط، حيث باتت ايران تبحث في العالم عمن يجرؤ على تجاهل القرار الغربي ويشتري بترولها وبضائعها. وبحسب بعض المصادر، فان صادرات ايران من النفط تراجعت خلال العام الماضي بنسبة (40) بالمئة، حيث لم تتمكن ايران خلال شهر آب الماضي، من تصدير أكثر (985) ألف برميل من النفط يومياً، فيما كانت تصدر قبل العقوبات الغربية، اكثر من مليوني برميل يومياً. كما تعتمد ايران على الصادرات غير النفطية، وبحسب بعض الاحصائيات الايرانية، فان قيمة الصادرات غير النفطية بلغت العام الماضي نحو (50) مليار دولار. وبما أن ايران تعد من الدول الشرق أوسطية الناشطة في مجال التجارة والاقتصاد على الصعيد العالمي، فان العقوبات الاقتصادية، تركت أثراً سريعاً على سقف الاسعار في الداخل وقيمة العملة المحلية الايرانية، التي انحنت أمام الدولار الى مستوى متدنٍ لم تشهده من قبل، حيث شارف قيمة الورقة النقدية من فئة (100) دولار امريكي الى نحو نصف مليون تومان.
ولذلك، فان بعض المراقبين يرون في المشهد الاخير من العلاقات الايرانية ndash; الامريكية، تفاؤلاً مشوباً بالحذر، وأن الايرانيين ربما يخفون لعبة أخرى تحت الطاولة ويعيدون مشهد التهديد والوعيد والتنافس المحموم على النفوذ في المنطقة مع الغرب وامريكا.
لكن الوجه الآخر للعملة، ربما يكشف عن وجود خطة استراتيجية، أو تطلّع بعيد المدى لعلاقات مستقرة ndash; الى حدٍ ما- يضمن المصالح القومية للجانبين. وقد التقط المراقبون إشارات من هذا النوع عندما أرسل الرئيس الامريكي باراك أوباما، برسالة تهنئة الى حسن روحاني بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو ما أكده الاخير بإيجابية خلال حوار له مع مراسلة محطة (ان بي سي)، الامريكية. وهناك مؤشرن هامان على وجود هذا المدى البعيد في المشهد الراهن، منها تقديم ايران صورة جديدة عن الوجه القيادي المخوّل بتنظيم العلاقات مع العالم الخارجي، وفي مقدمتها الملف النووي، ويشير المراقبون الى التحول النوعي في موقف مرشد الثورة الاسلامية من الملف النووي، حيث أطلق الضوء الأخضر لانتقال هذا الملف من مجلس الأمن القومي الايراني، الى وزارة الخارجية، وهذا يعني بالدرجة الاولى، تحجيم دور quot;حرس الثورةquot; في هذا الملف، وبشكل عام، في السياسات الخارجية الايرانية، حيث يعد هؤلاء انفسهم حماة الدولة والامن القومي الايراني دون منافس، بل ويشككون دائماً في قدرة أي شخص أو جهة أخرى بأداء هذا الدور.
الأمر الآخر الوضع الاقليمي الذي يعجّ بالتحولات والأزمات.. فمنذ اندلاع الثورات في البلاد العربية، والغرب يبحث عن الجهة التي تمثل وجه الاستقرار في المنطقة، بينما حرص الايرانيون بشكل واضح على عدم التدخل بشكل مباشر وواضح في سوريا والعراق، وحاجة الغرب إلى دولة ذات وزن إقليمي يمكنها لجم حلفائها المتمردين قبل خصومها، لذا فان هذه العلاقة رغم تعقد ظروفها ومعطياتها يمكن المراهنة على نجاحها مستقبلاً في حال نجح الطرفان في تحجيم دور الاطراف الداخلية والخارجية المعوّقة لهذه العلاقات، ويبدو أن الطرفين حريصان على إنجاحها.. ول بأي ثمن كان في الوقت الراهن!
.. كاتب وباحث