مع استلام حزب العدالة والتنمية للسلطة في عام 2002، الكثيرون روجوا لفكرة ان النظام التركي الذي يقوده الحزب سيكون النموذج الذي يتعين على الدول الاسلامية اتباعه، ومنذ ذلك الوقت بدأ نجم تركيا يتألق ويزهو، خاصة وانه حقق انجازات عظيمة في تركيا، تأتي في مقدمتها الانجاز الاقتصادي.

فقد استطاع العدالة والتنمية أن يحدث نقلة اقتصادية كبيرة في تركيا من بلد يرزح تحت وطأة الديون والبطالة وتدني معدل الدخل القومي والتضخم الى بلد يتصدر اقتصاديات دول المنطقة في النمو والازدهار الاقتصادي، ولكن السؤال المطروح هو، هل كان المطلوب من تركيا أن تكون نموذجا اقتصاديا يحتذى به أم نموذج سياسي؟

لم يكن في قرارة نفوس الذين روجوا لفكرة تحويل تركيا الى نموذج ان يقتصر نموذجها على المجال الاقتصادي وان كان ذلك من مقتضيات تطبيق الفكرة على الارض، فلا جدوى من تحول تركيا الى نموذج ثقافي أو اجتماعي أو سياسي وشعبها يتضور جوعا، وانما كان الهدف أن تتحول تركيا الى نموذج سياسي بالدرجة الأولى.

وقف الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة وراء الترويج للفكرة عندما وصل الى قناعة ان أحد اسباب استهداف المصالح الأميركية ومن بينها تفجيرات 11 سبتمبر يعود الى انعدام الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، الرئيس الأميركي بوش الابن دعا أثناء زيارته لأنقرة عام 2004 الى ضرورة ان تلعب تركيا هذا الدور، كما ان اوباما صرح بنفس الكلمات عندما زار تركيا عام 2009، وساهمت عدة عوامل في تعبيد الطريق امام أنقرة للعب هذا الدور، من بينها فتح بعض دول المنطقة أسواقها أمام البضاعة والشركات التركية، وكذلك سماح بعض الدول لأنقرة بلعب دور الوسيط في ملفاتها الشائكة كالملف النووي الايراني وعملية السلام خاصة بين سوريا واسرائيل، وملفات أخرى.

وفضلا عن موقف الحكومات فان شعبية الحكومة التركية بدأت تزداد وبريق الدور التركي يتالق ويزداد أيضا وسط الشعوب العربية والاسلامية، عندما أعلنت الحكومة التركية رفضها الحصار الاسرائيلي المفروض على غزة، وتزايد الألق عندما دعمت تسيير سفينة مرمرة لتكسر بشكل عملي الحصار.

غير ان هذا البريق بدأ يخفت تدريجيا عندما تحركت اسرائيل نحو اقناع الغرب بان النظام التركي ليس النموذج الصالح للتغيير اذا استمر في تحركاته التي لا تعجب تل ابيب، ولكن قبل ذلك صدمت أنقرة بالموقف الأوروبي ويالتحديد الموقف الفرنسي والالماني الرافضان لانضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، مما يبرهن ان أوروبا ليست مستعدة لدعم انقرة بأي ثمن كان لتتحول الى نموذج في العالمين الاسلامي والعربي.

الانقسام تجاه الربيع العربي خاصة بعد عزل الرئيس المصري محمد مرسي وجه صفعة شديدة للتألق التركي، فاصرار الحكومة التركية على ان مرسي الرئيس الشرعي لمصر وان السيسي لا يتمتع بشرعية رسم خارطة جديدة للاصطفاف السياسي في المنطقة، ومن المؤكد أن المجموعة التي تعارض تركيا لم تعد تعتبرها نموذجا للتغيير.

شكل اندلاع الأزمة السورية عنصرا مشتركا للفريقين المعارض والموالي لتركيا، مما جعل الفريق المعارض للنموذج التركي يؤجل معركته مع تركيا حتى تنتهي الأزمة السورية رغم أنه يطلق بين فترة وأخرى رشقات لتتوقف أنقرة بشكل نهائي عن ممارسة دور النموذج الديمقراطي في المنطقة.

لا توجد مؤشرات على أن أنقرة تعتزم يوما ما التخلي عن نهجها، بل ان طبيعة الوضع التركي سواء الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي لا تسمح باختيار نهج غير النهج الديمقراطي في ادارة البلاد، وبما أن تركيا تتمتع بثقل لا يستهان به في العالم السني فمن الطبيعي أن بيئتها السنية تتأثر بها، الأمر الذي ترفضه عدة بلدان سنية بينها بلدان مؤثرة تأتي مصر في مقدمتها.

معركة المحور المعارض للنموذج التركي، ليست معركة ربح أو خسارة وانما معركة وجود فهناك دول تشعر ان نظامها مهدد لو بقي حزب العدالة والتنمية في السلطة لذلك فانها لن تكتفي بأفول النجم التركي وحسب بل بتغيير الخارطة السياسية لهذا البلد، لذلك على أنقرة أن تستعد لمعركة سياسية ضارية بعد انتهاء الأزمة السورية.

&