عندما قطع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي رواتب موظفي إقليم كردستان، كنا نظن بأن حكومتنا الرشيدة التي تأسست منذ عام 1992 أي قبل إثنان وعشرون عاما وبلغت سن الرشد قد بدأت تفهم كيفية إدارة السلطة بالإقليم. وإعتقدنا لوهلة أنها على الأقل إدخرت بضعة مليارات من الدولارات من أجل اليوم الأسود الذي أوقعنا به المالكي،وتوقعنا أن تستمر وتيرة المعيشة بكردستان كالمعتاد وأن يستلم الموظفون رواتبهم من الإحتياط النقدي بالإقليم وليذهب المالكي وحكومته الى جهنم وبئس المصير..

وقبل هذه الأزمة المالية كانت الطبول تقرع إيذانا بقرب إعلان الدولة الكردية المستقلة، وكنا نطرب لذلك ظنا منا بأن المالكي قد دق بقراره قطع تلك الرواتب المسمار الأخير بنعش التوافق والشراكة الكردية العربية بالعراق، وأنه حان الوقت لكي تبادر قيادتنا "الرشيدة" كرد فعل موضوعي لهذا التصرف من المالكي بالإنفصال عن العراق وإعلان الدولة المستقلة، خاصة وأننا كنا نظن بأن التحضيرات كانت تجري على قدم وساق قبل مايقرب من عشر سنوات لإعلان هذه الدولة المزعومة خاصة مع إنهمار مليارات الدولارات من ميزانية الدولة العراقية سنويا على إقليم كردستان وتحديدا منذ عام 2005 بالإضافة الى المليارات الأخرى التي تسلمتها حكومتنا من " الحلاوة" النفطية والتي إعترف وزير الموارد الطبيعية قبل أكثر من خمس سنوات بتسلم خمسة مليارات دولار منها في ذلك الوقت.

ولكن حساباتنا كانت خاطئة.

فمع الشهر الأول من الأزمة المالية بدأت حكومة الإقليم بالتسول،فزادت نسب الرسوم والضرائب على البضائع وأخذت تثقل كاهل المواطن بمزيد من الضغوط، حتى غدت مخالفة مروية بسيطة تعاقب بأكثر من 80 ألف دينار ما يعادل 70 دولارا لمجرد تجاوز السيارة للسرعة المحددة. وزيدت أجور الكهرباء والمياه بشكل غير مسبوق.

&وفي سابقة لم تحدث بأي دولة بالعالم رفعت حكومة الإقليم سعر البنزين بنسبة مائة بالمائة، فقد كان سعر اللتر 450 دينارا زيد الى 900 دينارا للتر الواحد.

بهذه الطرق الملتوية كسرت حكومة الإقليم عظم المواطنين بإثقال كواهلهم بتلك الزيادات والضرائب وأرادت معالجة الأزمة المالية المستفحلة بإقليم كردستان من خلال إثقال كاهل المواطن البسيط،في حين أن هناك عشرات الآلاف من المستفيدين من أموال الحكومة وفيهم من يملك ملايين الدولارات لم تقترب منهم الحكومة،بالإضافة الى مئات الشركات التي تتجاوز أرباحها السنوية ملايين الدولارات لم تزد عليها الضرائب، بل أخذت من جيوب الموظفين وذوي الدخل المحدود.

قبل أيام أعدت حكومة الإقليم مسودة قانون يجيز لها الإقتراض من بعض الدول الخارجية، وهناك نية لدى حكومتنا حسب التقارير الصحفية بإقتراض خمس مليارات دولار من كل من الإمارات والصين كوجبة أولى.. وإذا نجحت مساعيها بهذا الصدد فمن المتوقع أن تصل الأموال التي تقترضها الحكومة الى أضعاف هذا المبلغ مايعني بأن هذه الأموال ستبقى بذمة الحكومة الى أبد الآبدين، وستضطر الأجيال المقبلة الى دفع فوائد هذه الديون من قوتها اليومي وسيغرق الأقليم تحت ديون خارجية الى ماشاء الله.

وقد رأينا الكارثة الإقتصادية التي حلت بالعراق بعد أن وضع النظام الصدامي السابق البلد تحت رحمة ديون خارجية فاقت ثلاثمائة مليار دولار مازال العراقيون يدفعون ضريبة تلك السياسة اللعينة التي إنتهجها النظام السابق لإمتصاص آثار الأزمة الإقتصادية عليها.

حكومة الإقليم تبجحت كثيرا بأنها قادرة على تصدير أكثر من مليون برميل من النفط بحلول عام 2014،وهذه الكمية تكفي لإعاشة خمس دول بحجم إقليم كردستان،ولو كانت هناك سياسة إقتصادية سليمة لما كانت الحكومة بحاجة الى الإقتراض.وأعتقد بأن مشكلة رواتب الموظفين ستحل بطريقة أسهل من رهن إرادة الشعب بديون خارجية أو محاولة تجاوز الأزمة بالحلول الترقيعية وبالإقتراض الخارجي، هناك ألف طريقة أخرى لتوفير الأموال الكافية لدفع رواتب الموظفين وتدبير مصاريف الحكومة، منها:

- تقليل مصاريف الحكومة بنسبة 75% لأن مجمل تلك المصاريف هي لسفرات المسؤولين ومصاريفهم بالخارج والإقامة بفنادق الدرجة الأولى وصرف النثريات الشهرية ورواتب أطقم الحماية من الألوية والأفواج العسكرية.

- فرض ضريبة إجبارية على جميع الشركات الكبرى العاملة بكردستان بما فيها شركات الهواتف النقالة وشركات المقاولات والتجارة التي تربح مليارات الدولارات سنويا، وإلزامها بإستقطاع نصف تلك الأرباح طوال فترة الأزمة المالية الحالية.

- وقف صرف رواتب أعوان الحزبين الحاكمين وهم (مصوتي الإنتخابات) والبالغ عددهم أكثر من 800 ثمانمائة ألف عنصر يقبضون رواتبهم كموظفين بالحكومة.وقد إعترف وزير التجارة السابق بحكومة الإقليم بأن أكثر من 2000 موظف يستلمون رواتب من وزارته دون أن يداوموا يوما واحدا بالوزارة وهم يحضرون الى الوزارة كل رأس شهر لقبض رواتبهم.وكشف مصدر بأن هناك مدارس في الأرياف يداوم فيها معلمين إثنين أو ثلاثة وفيها أكثر من عشرين فراشا، ومساجد فيها إمام واحد وأكثر من ثلاثين خادما، وكل هؤلاء جرى تعيينهم بقصد شراء ولائهم للحزبين الحاكمين،وهذه نماذج صغيرة لظاهرة عامة كرستها حكومة الإقليم في السنوات الأخيرة من أجل شراء الولاءات عبر التعيين بوظائف الحكومة.

- إلغاء الرواتب التقاعدية الكبيرة للدرجات الخاصة ( وزير ووكيل الوزير والمدراء العامون) الممنوحة لكوادر وأعضاء الحزبين الحاكمين دون أن يكونوا قد داوموا بأية وظيفة حكومية وجرى تخصيص رواتب تقاعدية لهم لشراء ذممهم وولائهم للحزبين الحاكمين والتي تبلغ حسب بعض التقديرات المحلية بحدود خمس مليارات دينار مايعادل رواتب موظفي وزارتين من وزارات حكومة الإقليم.

- إلغاء النثريات والمساعدات المالية المخصصة والتي تبلغ مليارات الدنانير لرؤوساء العشائر وأصحاب الديواخانات وكذلك أصحاب المجلات الفصلية والشهرية المؤيدة للسلطة الحاكمة وبعض المنظمات المدنية التابعة لأحزاب السلطة التي تستخدم كدكاكين دعاية ضمن الماكينة الإعلامية للسلطة.

- وقف الإيفادات غير المبررة للوفود الحكومية الى الدول الأوروبية والتي تستنزف ملايين الدولارات سنويا دون أن يجني الشعب شيئا من تلك الإيفادات الرسمية اللهم إلا توفير الراحة والإستجمام لبعض مسؤولي السلطة على حساب ميزانية الحكومة.

- الإسراع بإنجاز الملف النفطي عبر التفاهم مع بغداد ليستعيد الإقليم حصته من ميزانية الدولة، أو كشف العائدات الحقيقية لبيع النفط الكردي عبر تركيا (خط أربيل جيهان) وإعادة تنظيم التجارة النفطية عبر الشاحنات مع إيران لتتمكن وزارة المالية من إعادة تنظيم أمورها بشكل أوضح.

هذه هي الحلول العاجلة للأزمة المالية التي يشهدها إقليم كردستان، أما على المدى البعيد فإن الإقليم يحتاج الى عملية إعادة شاملة لتنظيم موارده المالية عبر تصدير النفط والجبايات الداخلية بشرط تحقيق الشفافية فيها، لأنه لايمكن أن توضع جميع الموارد النفطية بشنطة وزير الموارد الطبيعية لا يعرف أحد بها،أو التلاعب بالعوائد الداخلية من الرسومات والضرائب وزيادتها على كاهل المواطنين لتوفير السيولة النقدية لدفع رواتب الموظفين،فلا يجوز أن ترتهن موارد الشعب بيد بعض الدول التي تسعى حكومة الإقليم للإقتراض منها، لأن الفوائد التي ستترتب عن تلك القروض وحدها ستستنزف من ميزانية الإقليم مبالغ طائلة تنوء بها الميزانية، خاصة وأن هناك بدائل أخرى لتوفير المال اللازم لإدارة شؤون الإقليم في مقدمتها إعادة التفاوض مع الحكومة المركزية حول حل الحلافات العالقة في مقدمتها المعضلة النفطية التي هي أساس المشكلة بين الإقليم والمركز.

&

[email protected]