عزيزي....
لم أعد أذكر اسمكَ الآن و لا أظن أني سألتُ عنه في المقام الأول، فأنتَ كنتَ بالنسبة لي الولد "اليزيدي" الذي يجلس في المقعد الأخير و لا يغادره أبداً حتى في الفرصة. ذلك الولد الذي يتعرض يومياً للمضايقة من بعض الأشقياء في الصف و يتجنبه الآخرون. كنتُ أتحاشاك خوفاً من أن أصير في مرمى عداوتهم، كأن بك عدوى قد تصيبني لو دافعتُ عنك. كنا أنا و أنت في مدرسة واحدة، في صفٍ واحد، لسنة واحدة في بغداد، و لم أركَ بعدها. لعلكَ الآن، مثلي، في مستهل الثلاثينات من عمرك. لكني فيما عدا هذا لا أشبهك، فأنا علمتُ بما جرى من نشرات الأخبار، أنتَ في الغالب كنتَ هناك في سنجار حين جاء الوحوش.
أعرفُ أن المرارة و الغضب في صدرك الآن أكبر من الجبل الذي لجأتم إليه فما حَنَّ عليكم، لا هو و لا نحنُ، و أعذرك لو لم تشأ الاستماع إلي. خذلناكم ألف مرة قبل هذه المرة، ذُبحتُم و هُجِّرتم و سُبِيَت نساؤكم فما أسعفناكم. قد تَرى أننا جميعاً قاتلوكم، و لن تكون مخطئاً عندئذٍ. لكننا لسنا سواء. مِنّا مَنْ إذا فتحتَ قلبه لأفزعكَ السوادُ الذي فيه، شامتٌ يرى أنكم كفرة، تعبدون الشيطان و تستحقون العذاب. و مِنّا مَنْ يحزن لمصائبكم و لا يقبلُ بها، لكنه يصمتُ عن بلواكم كما يصمت عن بلواه.
ثم فينا قلة رفعت صوتها في العلن دفاعاً و لو بكلمة. و حتى هؤلاء ليسوا سواسية، منهم من –و إن كان حسن النية- إنما يوطدُ أكثرْ أركانَ الجحيم الذي يحيط بكم، بدفاعٍ تعلوه غشاوة فهولا يبصر. إذ يدافع عنكم من باب أنكم لستُم كفاراً و لا تعبدون الشيطان. و هو بهذا لا يختلف كثيراً عن المتطرف الذي يذبحكم و يسبيكم. لأنه يعترف ضمنياً بأن للكفر و الإيمان علاقة بأن يُقتل الإنسان أو لا يُقتل، و هذا عين ما يقوله المجرمون، فيصبح الخلاف إذاً هل أنتَ كافرٌ أم لا، عوضاً عن رفض الجريمة جملةً و تفصيلاً.
أقول، لسنا سواء، فقلة القلة – و أحسبُ أني من هؤلاء- ترى بأن دم الإنسان حرام حتى إذا عبد الحجر أو الشجر أو لم يعبد شيئاً أبداً. القتلُ جريمة على كل حال مهما كان دين الإنسان، و لذا فإن الدفاع عن الإيزيديين و عن غيرهم ينبغي أن يستند إلى حقوق البشر المتساوية في الحياة و كفى، لا أن يمر من بوابة الدين و المذهب. و إلا فإن الدفاع عن أصحاب أي معتقد من خلال نفي الكفر عنهم لو كان مجدياً لأفادَ في كف الطوائف الإسلامية نفسها عن مقاتلة بعضها. زمن التكفير و نفي التكفير و الفتاوى و الفتاوى المضادة مضى. و لكن عليَّ أن أعترف، هم أكثر منا عدداً و الناسُ أَسْمَعُ لهم.
&
هل تَرى؟ ها أنا أدافعُ عنا لا عنكم.
ما من كلمات تواسيكم، و لا أعذار تكفي لتبرئة أحدٍ منا، فنحن جميعاً مسؤولون، قوينا و ضعيفنا. و هذي وصمةٌ أخرى على الجبين. و يبقى السؤال الذي فشلنا جميعاً في التصدي له معلقاً فوق رؤوسنا حتى نجيب عنه بصراحةٍ و شجاعةٍ و صدقٍ مع أنفسنا و مع الآخرين. ما
المهم و ما الأهم، الإنسان أم الدين؟ و لا مجال لأجوبة مراوغة، لا بد من الاختيار. الشعوب التي تجاوزتْ زمنَ تصنيفِ ناسِها بحسب الدين و الطائفة قالت كلمتها، الإنسان هو الأهم و لا علاقة لاعتقاده بحقه في حياة كريمة. أما نحن فلم نطرح السؤال بعد كما يجب، فضلاً عن الإجابة عنه.
لماذا أكتبُ لك هذه الرسالة، و الأحرى أن أتوجه بها إلى الذين ظلموك؟ و لستُ أُبْرِئُ نفسي. أفعلُ هذا لأن وجهَكَ من بين الوجوه التي أذكرُها، هو الوحيد الذي يبقى هكذا وحيداً بلا اسم. يؤرقني أنك لا زلتَ في عيني ذلك الفتى اليزيدي، و في أعين الكثيرين ذلك اليزيدي الملعون.
مع كل هذا، لا أجدُ أن في وسعنا أن نصمت، بل لا بد أن نرفع أصواتنا. فهل يُعقَلُ أن يكون قلبُ الداعشي المسخ أقوى من قلوبنا جميعاً؟ و هل يجرؤ الذين عميت قلوبهم فشايعوه أن يعلنوا عن جريمتهم و لا نجرؤ نحن على الدفاع عن أنفسنا؟ لا بد أن ننهض لنرد. هذه المعركة معركة ضمائر و عقول و أفئدة قبل أن تكون معركة سلاح. تخاذَلْنا عن معالجة أمراضنا الاجتماعية و العقائدية و الطائفية حتى أفلتت الأمور و انفجرت، فخرج علينا هؤلاء الوحوش، و هم واحسرتاه من صنع أيدينا، أو على الأقل نتاج إهمالنا و جبننا. في الماضي كنا نخاف لنعيش، أما اليوم إذا خفنا فسنموت. لهذا فإن النصر الحقيقي و الجذري على الإرهاب لن يأتي إلا بتجفيف منابع التطرف في البيت و المدرسة و الشارع و الجامع، حتى لا نضطر لأن نتوجه إلى ميدان المعركة.
أنا واثقٌ بأنك لا زلتَ حياً في مكانٍ ما، و سنحيا لحقنا و لحق أخواتنا الإيزيديات المختطفات، و لحقوق الأخريات و الآخرين. و عندها فقط ربما تشرقُ شمسٌ جديدة على وجهينا، أنت و أنا، معاً.
&
* كاتب و شاعر عراقي [email protected]
التعليقات