كنت أتمنى ان تصبح أيا من ابنتاي مهندسة مثلي ومثل زوجتي ولكن كلما حاولنا اقناعهما بدراسة الهندسة كانت الإجابة الحاضرة دائمة بان :"مهنة الهندسة مهنة مملة"!! ورغبتي تلك في ان تكون احداهما مهندسة جعلتني أفكر كثيرا لماذا لم يحاول والدي الشيخ الأزهري ان يدخل اي من ابناءه او احفاده الى اي معهد أزهري مثل المعهد الذي درس فيه؟ ولماذا حرص ان يدرس ابناءه وأحفاده الطب والهندسة والحقوق، ولماذا كان يقول لنا دائماً ان "رأسمالنا الوحيد هو العلم"، ولم يعلمنا ان رأسمالنا الوحيد هو الدين؟ هل لان والدي كان شيخا أزهريا علمانيا؟ ولكن لا لم يكن علمانيا باي شكل من الأشكال فقد قضى معظم حياته خطيبا مجانيا في المساجد وكانت هوايته الوحيدة هي بناء المساجد، حتى ان بيتنا في القرية نصفه منزل والنصف الاخر مسجد؟؟
ولكي اعرف السبب قررت اجراء بحث عن أبناء المشايخ ورجال الدين وأين يوجهون ابناءهم للدراسة وما هي المهن التي يحاولون تأهيلهم لها؟ فلم تكن مفاجاة لدي بأنني لم اجد شيخا او رجل دين طلب من ابناءه ان يلتحقوا بالمعاهد الدينية. والسبب المباشر قد يكون واضحا وهي ان مهنة رجل الدين لا تفتح بيتا (على الأقل في القرن الماضي) ، لذلك اتجه أبناء رجال الدين الى المهن التي تفتح البيت مثل الطب والهندسة والمحاماة وخلافها، ولكن هناك سبب خفي وهو انني اعتقد انه داخل كل رجل دين هناك رجل براجماتي.

وما دمنا نتحدث عن التعليم كوسيلة لمحاربة التطرّف والارهاب، تعالوا نسال أنفسنا لماذا يتعلم الانسان؟ قد يبدو سوال بديهي وسطحي ولكن اتحداك ان سالت مائة شخص: لماذا تتعلم؟ لقال لك تسعون منهم انهم يتعلمون للحصول على شهادة، ومنذ بدء الخليقة بدا الانسان يعلم ابنه اول مهنة امتهنها الا وهي مهنة الصيد وهي مهنة الهدف منها هو توفير الغذاء لابقاء الانسان على قيد الحياة، ثم بدا الانسان في تعلم الزراعة ثم بدا في تعلم التجارة وكان التعليم يبدأ من الأب الى الابن، والتعليم يجب ان يكون لخدمة المجتمع وان يوفي حاجات المجتمع من المهن التي يحتاجها، فمثلا في أمريكا حاليا يتوقعون نقص في عدد الأطباء الذين يحتاجها المجتمع بعد عشر سنوات لذا بدأت بعض كليات الطب في قبول المزيد من الطلبة. فإذا كان المجتمع يحتاج نصف مليون عامل بناء إضافي في العشر سنوات القادمة لذا يجب على هذا المجتمع تدبير مدارس مهنية لتخريج هذا العدد من عمال البناء، وإذا كان احتياج المجتمع بعد عشر سنوات من المحامين لا يتعدى خمسة آلاف محامي فلا يصح ان يكون هناك كليات حقوق تقوم بتخريج ثلاثين الف محامي لان هذا يعني ببساطة انه سوف يكون هناك خمسة وعشرون الف محام عاطل عن العمل.
وكما يقول المثل الصيني :"لا تعطني سمكة .. علمني كيف أصيد" وهذا مثل رائع يشجع على التدريب والعمل ونبذ التسول والدعم، وبما ان في بلدان الشرق الأوسط لا يهتمون كثيرا بالتعليم او التدريب الا للحصول على الشهادات فقد حولت المثل الصيني الى مثل عربي يقول: "لا تعطني بيضة... علمني كيف ابيض"!! وبما اننا لا نبيض فسوف نستمر في طلب البيض والتسول من الحكومات، ويمكن للمجتمع حقيقة ان يبيض وان يفرخ علماء وعمال ومهندسين وأطباء وفلاحين وصيادين اذا تمكن من تعليمهم التعليم الصحيح ويمكن ايضا بالاضافة الى هذا (كما هو حاصل الان) ان يبيض ويفرخ متطرفين وإرهابيين اذا اساء التعليم والتدريب.
وكما قلنا من قبل فان التعليم هو سر تقدم المجتمعات، وكلما ارتفع شان التعليم ارتفع شان المجتمعات، وما هو اهم من التعليم النظري هو التدريب المهني، انظر الى ألمانيا على سبيل المثال وكيف استطاع الاقتصاد الألماني القوي حماية الاتحاد الاوروبي من التفكك، كل هذا بسبب سواعد ابناءه الذين تدربوا أفضل تدريب مهني وحرفي في العالم، لذلك تجدهم ينتجون أفضل السيارات وأفضل الماكينات وأفضل التكنولوجيا في العالم، حتى ان فريق كرة القدم الألماني بطل العالم يلقب بفريق الماكينات الألمانية!!
وعندما كنت في كلية الهندسة بجامعة القاهرة ذهبت الى ألمانيا في الصيف للتدريب في احد مصانع الصلب الألمانية ورغم انني لم أمكث هناك سوى ثلاثة شهور الصيف الا ان تلك الفترة غيرت فكرتي تماما عن الحضارة الغربية كما انها غيرت طريقة تفكيري حيث انني تاكدت ان سر تقدم الامم هو العلم والعمل والجدية، ورغم أني كنت طالبا تحت التدريب وان وجودي في الشركة لن يقدم ولن يؤخر شيئا الا انني كنت أعامل وكأني موظف او عامل مستديم احترم والتزم بكل جدية بقواعد العمل بالشركة.
وإذا تطور لدينا التدريب المهني وصار أمرا جديا ومحترما فان خريجي تلك المنظومة من العمال المهرة سوف يقدرهم ويحترمهم المجتمع بصورة أفضل لجودة تعليمهم وتدريبهم اولا ولارتفاع مستوى معيشتهم ثانيا، وتغيير نظرة المجتمع للعمال واحترامه لقيمة العمل اليدوي هي عنصر أساسي في نهضة المجتمعات، واذكر مقولة لمستر (فوربس) (مؤسس مجلة فوربس المشهورة ) تقول: "ان المجتمع الذي يحترم المهندس اكثر من احترامه للسباك، لن يكون لديه مهندس جيد ولا سباك جيد"!
وعلى ذكر السباك، اذكر انه كان يعمل لدي في المشروعات التي اشرف عليها في أمريكا سباك أمريكي اسمه "واين" وكان فاهم عمله تماما وكنت أراه يحضر للعمل ببدلة العمال ويقود سيارة بيك أب قديمة، وذات يوم دعاني للعشاء في منزله وذهبت الى منزله وفوجئت بان منزله أفضل كثيرا من منزلي وان زوجته الامريكية تعمل مدرسة ورايت سياراته الجديدة في جراج المنزل، وكانت المفاجاة الأكبر ان عزومة العشاء كانت عبارة عن سوشي ياباني وانه يقوم بعمل هذا السوشي بنفسه وانه يطلب مكونات السوشي من مدينة ميامي ويتم إرسالها له بالبريد السريع!!
لذلك تعلمت هنا في أمريكا ان احترم العامل اكثر وان أتواضع اكثر.
وللشركات الكبرى دور هام في التدريب المهني والحرفي لانها بذلك تخدم نشاطها واقتصادها قبل ان تخدم المجتمع، ولتكن لنا في الصين وكوريا الجنوبية أسوة حسنة لأنهما خلال سنوات بسيطة في عمر الشعوب استطاعوا ان يرفعوا من كفاءة العامل لديهم حتى ان العامل الصيني غزا العالم بمنتجاته، حتى قيل ان :"مصر هبة الصين"!!
[email protected]

&