&

البصرة ميناء العراق:

في الخمسينات وحتى في أول الستينات، كان بعض عمال النظافة في مدينة البصرة يدفعون عربة حديد سهلة الدفع وهي بعجلة واحدة ودافعين يدويين، يمسك بهما عامل النظافة، ويدفع بعربة النفايات ويتوقف عند بضعة أكوام قش أو ورق دفعت بها الريح ويذهب لرميها في حاويات لتأتي سيارات النفايات وتنقلها إلى محرقة بعيدة. تصبح الشوارع نظيفة وتأتي مساء سيارات تحمل خزانات مياه ترش شوارع المدينة فتفوح رائحة الأرض والتربة الغالية وتشعر المواطن بجمال العيش والإنتماء للمدينة والوطن!

&

إضراب الزبالين :

إضراب إفتراضي دهم مخيلة كاتب القصة العراقية القصيرة عبد الملك نوري فكتب قصة عنوانها "إضراب الزبالين" وراحت مخيلة الكاتب متساءلة، ماذا لو قام عمال النظافة "الزبالون" بإضراب في المدينة مطالبين بحقوقهم. وصف المدينة في قصته وهي تختنق بالنفايات، وهو ما لم يحصل سوى على الورق وسطور القصة!

&

نفايات أقليم البصرة :

&

كانت البصرة مدينة عراقية وهي ميناء العراق المتحضر على كافة الصعد الثقافية والحضارية والمدنية وقد ورد ذكرها في تقرير الأمم المتحدة عندما قبل العراق في المنظمة الدولية في بداية تأسيس الدولة العراقية الحديثة.

&

اليوم البصرة تريد أن تعلن نفسها إقليما بعد كل الذي جرى من الويلات. لا أحد يعرف أسباب الدوافع وهي تريد أن تقلد وجود أقليم كوردي. لا بد وأن يتمتع الإنسان بحاسة شم إستثنائية كي يقرأ دوافع الأقاليم وشكل الدستور المقر بدون قرار شعبي ووطني وهو دستور متخم بالألغام.

&

زرت البصرة، مدينتي العام الفائت. شاهدت ذلك الميناء الجميل كومة من النفايات والأنهر المتفرعة من شط العرب والتي جفت فيها المياه وتحولت إلى مخازن للنفايات تنبعث منها روائح لا يمكن تحملها. وشاهدت ضمن ما شاهدت مشاهد هلع الناس نحو النفايات فصرت أصحو فجراً وأتجول في الحي الذي أقيم فيه لأرى المشاهد المثيرة للتصوير، صبايا عراقيات ملحفات بالسواد من أخمص القدم حتى النخاع الشوكي يدخلن في الحاويات التي يرمي فيها الناس النفايات ويرمين النفايات خارج الحاويات ويجمعن قناني بلاستيك المياه والمشروبات في أكياس سوداء ثم يخرجن من الحاويات فجراً. شيء يشبه كوابيس النوم. وثمة فئة من الرجال يذهبون نحو البراري منتظرين سيارات النفايات ويصعدون فيها ليجمعوا بقايا بنطايل أو قمصان أو قدور قبل أن تلقي الشاحنات حمولتها في المزابل الكبيرة، فهم يستبقون زملائهم من جامعي النفايات للأستحواذ على الثروات المدفونة في النفايات!

هذا يحصل في مدينة البصرة ميناء العراق الجميل، مدينة النفط والثقافة التي تريد أن تتحول إلى أقليم للنفايات.

&

المقاولة :

ذكرت التقارير الصحفية ولجان التحقيق والقاء تبعات الفساد على السلف لأبعاد الشبهة عن الخلف بأن هناك فساداً في إحالة مقاولة لجمع النفايات إلى شركة كويتية بمبلغ مائتي مليون دولار لتخليص ميناء البصرة من النفايات. الشركة الكويتية لا يروق لها التورط بدخول البصرة والعراق لتنفيذ الإتفاقية فتعاقدت "إعادة تعاقد" مع شركة تركية بمبلغ زهيد قياسا بمبلغ المقاولة وتم توقيع الإتفاق. الشركة التركية لسبب ما ربما بسبب إسناد تركيا لداعش لا يرغب موظفوها من السفر للعراق خوفا من التنكيل والثأر فتعاقدت مع مقاول عراقي من مدينة البصرة ببضعة مئات الآلاف من الدولارات لجمع نفايات أقليم البصرة المختنق بالنفايات. المقاول العراقي إشترى سيارة قديمة لجمع النفايات يأخذها من هذا الشارع ليلقيها في شارع آخر أمام أنظار أهالي البصرة الذين وقفوا مذهولين!

&

الحل:

إحالة المقصرين على ذمة التحقيق ليس حلا! وضع الموقعين على العقود إلى لجنة النزاهة ليس حلا! تظاهرات أهالي البصرة ليوم أو ليومين أو حتى لشهر أو لشهرين او لسنة أو سنتين ليس حلا! إجتماعات مجلس الوزراء لبحث أزمة النفايات في البصرة ومعاقبة المسؤولين ليس حلا!

كلها تخدير أعصاب ذات طابع إعلامي.

&

النفايات موجودة في كل الوطن العراقي، وهي نفايات سياسية وليست نفايات مطابخ وأحراش وأوراق وإهمال. التخلص من النفايات السياسية هو الذي لا يترك نفاية في حاوية ولا جبلا للمزابل في صحارى العراق، لكن الوطن العراقي للأسف لم يفرز رموزه الوطنية بعد، لقد أصبحت رموز العراق السابقة حلما في الذاكرة، تلك الرموز التي كانت في سنوات غابرة أبان الحقبة الملكية تحب العراق وتتعارك من أجل العراق وليس من أجل الذات الحزبية أو المحاصصة السياسية والطائفية والعرقية!

الحل لا يمكن أن يكون إصلاحيا في وضع العراق الحالي. "فالشق كبير والرقعة صغيرة" الحل ينبغي أن يكون جذريا، أن تأتي حكومة وطنية من رموز عراقية تحب وطنها وترمي أول ما ترمي دستور النفايات دستور المحاصصة الطائفية والعرقية الأمريكي الجنسية الذي لا علاقة للشعب فيه لا من بعيد ولا من قريب ولم يقره الشعب بمعنى الشعب وليس بمعنى البرلمان الزائف.

حين تنمو شجرة الوطن وينضج تفاحها وعنبها، فإنها ستشكل غابة وارفة الظلال على الوطن الحزين الدامع وتعيد إليه إعتباره وحضارته وثقافته، وسوى ذلك يبقى الوطن النظيف الخالي من نفايات المزابل ونفايات الساسة، يبقى الوطن النظيف مجرد حلم واه في وجدان المتفائلين!

&

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

&

[email protected]