عودنا السيد مقتدى الصدر أن لا يتخذ المواقف السياسية التي تعارض الحسابات الإيرانية في العراق. وقد دخل سلسلة فتن مسلحة وصدامات مع القوات العراقية والأميركية، وهو ما كانت تريده إيران. وشريكها السوري. كما ساهم وأنصاره في تشجيع الشقاق الطائفي الحاد.
كانت للصدر طموحاته للزعامة على العراق؛ ومن هنا شهدت السنوات الأخيرة معارضته لسياسات المالكي، ولكنه، وتحت الضغط الإيراني، وافق على تبوء الأخير ثانية لمنصب رئيس مجلس الوزراء رغم أن قائمته الانتخابية لم تكن الأولى.
ها هو الصدر يعلن بقوة عن انسحاب تام وكلي من العمل السياسي، وذلك قبل شهرين فقط من الانتخابات. ويبدو لنا، ونحن بانتظار تفاصيل وافية عن الموقف والخلفيات، أن السيد مقتدى اتخذ موقفه الانسحابي القاطع وهو بين نارين: الاستمرار في معارضة المالكي، وما يعنيه من إغضاب إيران، التي تعمل جاهدة لإنجاح الولاية المالكية الثالثة، وبين القناعة بدور ثانوي في quot;العملية السياسيةquot; بوجود المالكي فوقه وإحراجه بالاضطرار للتراجع عن كل مواقفه الأخيرة المعارضة للمالكي. إن قراره ينم عن فورة غضب وإحباط لأنه جاء مفاجئا وبأقصى حزم وقطعية. فالانسحاب من الحياة السياسية لم يكن يوما من هواجسه وأهدافه، ولكنه اليوم يركب هذا المركب بمرارة، مقرونة بغضب مكبوت.
إن انسحاب الصدر دليل جديد وقوي على أن نظام الفقيه هو السيد الأعلى الذي يهيمن على جميع تفاصيل وعتلات السلطة والحياة العراقية، سياسة داخلية وخارجية، ومجتمعا، ومذهبا، واقتصادا. وقد ساهم الصدر بدور خطير في هذا المآل، الذي ترتد عليه الآن شراراته.
كان على الصدر، منذ البداية، الاكتفاء بدور ديني كأي رجل دين. ولكنه جازف كثيرا لحد اتهامه بمقتل السيد عبد المجيد الخوئي وزميليه في الحرم الحيدري، ولحد إشعال حرب داخلية في النجف عام 2004، و التعاطف مع هيئة علماء المسلمين المتطرفة القريبة من القاعدة والصداميين.
إن المواقف الأخيرة للسيد الصدر كانت تتسم بدرجة من المرونة والاعتدال، لاسيما إزاء اعتصام الأنبار. وقد حذر المالكي من الهجوم العسكري على المعتصمين، ولكن هذا ركب رأسه، وهاجم، وقتل من قتل، ثم انسحب ليترك الميدان خاليا أمام تسلل المتطرفين المسلحين الذين يوصفون بتنظيم داعش.
لقد استطاع المالكي كسب مسلحي كتائب أهل الحق، الذين كانوا مع الصدر، وضمهم إلى ما يسمى بالعملية السياسية، وأباح لهم حرية التصرف، كما فعلوا أيام زمان بوجود القوات الأميركية وهجماتهم على تلك القوات، وكما يفعلون في شوارع العراق هذه الأيام. وبانسحاب الصدر، تتخلخل الجبهة المعارضة لولاية المالكي الثالثة. وقد تنجح إيران في المزيد من الخلخلة بالضغط على أطراف سياسية أخرى. فالولاية الثالثة مطلوبة إيرانيا، خصوصا بالارتباط بالوضع السوري؛ كما أن إدارة اوباما لا تعارض الولاية الثالثة لكيلا تزعج إيران، وأيضا اعتمادا على تعهدات المالكي لها تحت شعار مكافحة الإرهاب، وهي تعهدات لن تصمد عندما يريد المالكي وإيران خلاف ذلك! وقد تعودنا نقض السيد المالكي لتعهداته ووعوده، كما فعل في أربيل، وكما في الغدر باللاجئين في أشرف وليبرتي وتقتيلهم، وخطف العديد منهم وإخفاء جثث المقتولين، [ربما في مقبرة جماعية؟؟]. ومن المرجح، واعتمادا على هذه التجارب، أن يتراجع هذه المرة أيضا عن تعهداته الجديدة في الأنبار، كما سبق وأن خذل الصحوات، التي قامت قبل سنوات بالدور الأكبر في محاربة القاعدة.