الشعب الروسي شعب عظيم دون شك، تاريخا ورصيدا علميا وتقنيا ولغويا وثقافيا وأدبيا وفنيا ورياضيا. وقد أنجب نوابغ العلماء والمفكرين والفنانين والروائيين والشعراء الطليعيين والرياضيين، ألخ.. وروسيا دولة كبرى مساحة، وعددَ سكان، وانتشارا على قارتين، وعلاقات دولية متشعبة، ودورا هاما جدا في دحر المحور الفاشي. ولكن روسيا كانت دوما دولة استبداد وتمدد ومطامع جغرافية، سواء في العهود القيصرية أو في العهود السوفيتية. وقد انهارت الإمبراطورية السوفيتية بعد سقوط جدار برلين، وتفرقت الجمهوريات التي كانت ضمن الاتحاد ، وهو ما اعتبره بوتين أكبر كارثة في القرن العشرين.
روسيا اليوم دولة كبرى، وتلعب دورا مثيرا في الساحة الدولية، ولكنه دور سلبي في غالب الحالات؛ دور دعم أنظمة الطغيان والعدوان، وخطف مجلس الأمن، واستعمال سلاح الغاز والنفط للابتزاز والضغوط؛ ودولة تثير القلق والمخاوف الدائمة لدى الدول الشرقية التي كانت تدور في الفلك السوفيتي ، وتخيف ونهدد الجمهوريات السابقة التي انفصلت عن روسيا منذ 1991 وبعد، ومنها أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق وغيرها. وفي 2008 وصلت هذه السياسات والممارسات إلى عدوان عسكري على جورجيا واقتطاع منطقتين منها. وحين تعارض روسيا تدخلا عسكريا دوليا ضد بشار الأسد بحجة وجوب احترام سيادة الدول، فإنها، هي نفسها، تنتهك هذا المبدأ، وفي سوريا نفسها، وهي اليوم تنتهكه عسكريا في أوكرانيا. لافروف لا يتورع عن سوق ذريعة quot;الدفاع عن حقوق الإنسانquot;، تبريرا للعدوان الذي يذكر بالعدوان الهتلري وذرائعه المهلهلة. ولكن أين هو من حقوق الإنسان السوري؟!!!!
إن مرارة شرائح من الشعب الروسي للانهيار السوفيتي أمر مفهوم، وإن تطلع الشعب الروسي لكي تلعب بلاده دورا مرموقا في الميدان الدولي مشروع ومبرر، ولكنه مشروع أيضا أن يتطلع الشعب الروسي إلى قيام حكم الديمقراطية وحقوق الإنسان على أراضيه أولا. أما بوتين، فهو يفهم استعادة quot; العظمة الروسيةquot; بالسعي لقيام إمبراطورية جديدة ، تمزج- كما كتبنا مرة- بين القيصرية والستالينية- أي دولة عظمى على حساب دول أخرى، ولاسيما تلك التي انسلخت من روسيا، وتلك التي كانت تدور في الفلك السوفيتي، هذا، مع الحفاظ على سلطة الاستبداد داخليا.
إن العظمة الحقيقية لروسيا هي في أن تكون دولة تتعايش مع الجيران وسائر دول العالم، وتحترم القانون الدولي، وتكون محل ثقة الآخرين، ومركز جذب لدعاة الحرية والديمقراطية، ومركزا للإشعاع الثقافي والفني والعلمي، ومحط قلق للأنظمة الدكتاتورية والعدوانية الغاشمة. لكن ليس هذا هو مشروع بوتين، الساعي ليكون قيصرا جديدا، مضروبا في ستالين جديد. إنه يستغل، بدهاء وذكاء وصبر، مواطن الضعف الغربية، والسياسات الأميركية خاصة، ليخطف مجلس الأمن وليتدخل في الأزمة السورية لصالح الأسد ولصالح المصالح الروسية في المنطقة، ويدعم نظام الفقيه، ويتحالف مع كوريا الشمالية وفنزويلا وأمثالهما من أنظمة القمع والدكتاتورية.
إن ما حدث في أوكرانيا كان شانا داخلا ، ولكن بوتين اعتبر ذلك شأنا روسيا داخليا مع أن الحكم الانتقالي لم يمس الاتفاقات المعقودة مع روسيا، بما فيها وجود القاعدة البحرية في القرم بسواستبول. أما كون أن شبه جزيرة القرم كانت يوما ما جزءا من روسيا، فإن هذا لا يبيح العدوان لاسترجاعها حيث أن إلحاقها بأوكرانيا عام 1954 كان برضاء الطرفين، ووفقا لاتفاق على إعادة رسم الحدود. فهل يجوز لأية دولة سبق أن وافقت على إعادة ترسيم حدودها مع دولة أخرى أن تعلن الحرب على تلك الدولة لأن أرضا كانت تابعة لها انضمت إلى الدولة الثانية وفقا لاتفاق بين الطرفين؟؟
أجل، روسيا بوتين تلعب وتراهن وتتحرك باستغلال مستغلة مواطن الضعف الغربية. وفقدان الموقف الصلب المشترك غربيا. ولو استمرت هذه الحالة، فيخشى أن يجازف بوتين باحتلال أراض أوكرانية أخرى وضمها بعد إعلان الصنائع الروس الاستقلال على نمط ما جرى في جورجيا. وتقوم روسيا حاليا بتوزيع جوازاتها على اكبر عدد ممكن من الناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا وجنوبها لاتخاذ ذلك حجة لعدوان عسكري واسع باسم حماية الرعايا الروس.
إن دولا أوروبية غربية، خصوصا ألمانيا، حريصة أولا على علاقاتها الاقتصادية والغازية والنفطية مع روسيا، ومن هنا ما سمي ببعثة وساطة تتحاور مع روسيا وأوكرانيا، وكأن أوكرانيا كانت طرفا فيما حدث من عدوان واحتلال عسكريين. والتصريحات والتهديدات الأميركية، التي تشف عن حيرة قاتلة وعن عصبية، حتى لو طبقت، فلن تثني بوتين عن اقتطاعه لجزيرة القرم نهائيا وعن التهديد باجتياح أكبر، إلا إذا نجح في قيام حكومة موالية لروسيا في كييف.
الغرب استيقظ، وهو مرتبك وحائر، على قرقعة سلاح العدوان الروسي، ولم يكن يتوقع هذه المفاجأة. ولكن بوتين، الذي نجح في جورجيا وسوريا وإيران، يعرف كيف يحرك بيادقه، ومتى. وما على الغرب إلا أن يوقظ بوتين نفسه، هذه المرة، من سكرة القوة والعنجهية والغرور والثقة المفرطة بالنفس، وذلك بمواقف متماسكة وقوية، منها -على سبيل المثال-. تذكير بريطانيا وواشنطن لبوتين بأن هناك اتفاقيات سابقة مع أوكرانيا لحماية سيادتها ووحدة أراضيها؛ ومنها أن يسارع الاتحاد الأوروبي لقبول أوكرانيا في صفوفه، و،عند الاقتضاء، ضمها لحلف شمال الأطلسي- مع دعم الثورة السورية بكل السبل والإمكانيات للخلاص من النظام الدموي. ولكن هل إن الغرب مستعد لاتخاذ مواقف صارمة وحدية كهذه؟!!!
شبه جزيرة القرم ضمتها روسيا فعلا، ولا رجعة، وربما ستجد من بعض الغربيين مبررات لسلب روسيا لها بحجة quot;المصالح الحيويةquot; وما شابه. ولكن ماذا عن عامل ردود فعل الشعب الأوكراني لو اجتاحت القوات الروسية مناطق أوكرانية جديدة؟ هل سوف يسكت اليوم أو غدا، حتى ولو عرف الموقف العاجز للغرب؟ لا أعتقد. وحينذاك، و لو اشتعلت المقاومة الشعبية والرسمية الأوكرانية، وراحت ماكنة الحرب الروسية تفتك بالآلاف وبالجملة، وفي عقر الدار الأوروبية، فهل يمكن للغرب السكوت؟ سيكون ذلك في منتهى الصعوبة. فالمجازر السورية تجري بعيدة عن الساحة الأوروبية، أما المجازر الروسية المحتملة فعلى حافة الغرب الذي لن يسكت رأيه العام. هذا ما أظنه...