ليس هذا المقال مخصصا للكلام عن أسباب فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية المحلية ولا لتعداد إنجازات هذا الحزب وسياساته، الموضوع الذي يشد المتأمل في الحالة التركية هو النتائج الغريبة التي أفرزتها هذه الدورة الانتخابية وإن كانت الغرابة نسبية ولا تنطبق إلا على عقولنا، ربما..
من الغريب جدا أن يتصدر الحزب الحاكم في المحافظات ذات الأغلبية الكردية وعلى حساب الحزب الكردي الأكبر حزب السلام والديموقراطية، واللافت الثاني هو التقدم الذين وجده حزب أردوغان في المحافظات ذات الوجود العلوي (وينبغي هنا التمييز بين علويي تركيا وعلويي الشام إذ أنهما مذهبان منفصلان) مثل محافظة هاطاي (لواء اسكندرون) وغيرها، إضافة لتحقيقه تفوقا في محافظة إزمير ذات الصبغة العلمانية تاريخيا.
إذن فإننا نشهد في تركيا حالة اختراق للاصطفافات السياسية والعرقية والمذهبية، اختراق سببه وبدون شك السياسة الاقتصادية التي يبتعها حزب العدالة والتنمية رغم أن الجدل الفلسفي والأيديولوجي حول الإسلام السياسي والعلمانية لا يزال على أشده.
اللغة التي يفهمها المواطن التركي هي لغة المصلحة المباشرة، نجاحات حزب العدالة والتنمية المتكررة أثبتت مقدرته على رفع مستويات البلديات التي يتولاها كما رفع مستوى البلاد بشكل عام ليجعلها من كبريات الاقتصادات العالمية، فمع مقارنة بسيطة مع الجارة إيران نستطيع أن نرى التفوق الاقتصادي التركي رغم أن إيران تملك من المقدرات والثروات ما يمكن أن يغرق شعوبا كاملة بالرفاهية التي يفتقدها شعبها.
ما قاله لسان حال الشعب التركي أنه يريد شيئا ملموسا على الأرض، يريد كل تلك النظريات السياسية عملا حقيقيا على شكل حلول لمشاكله وتقدما له، وما يقوله الأفراد من الشارع العربي المنخرط عاطفيا في هذه الانتخابات إما تأييدا لإسلامية أردوغان وتصفيقا لها ولكارزيمته المميزة أو على الجانب الآخر امتعاضا من استمرار تركيا كقلعة للإسلام السياسي من قبل من يرفض هذا التصور عن الاسلام والسياسة في العالم العربي، وهنا ينبغي أن نشير إلى اختلاف النظرية السياسية لحزب العدالة والتنمية تختلف كثيرا عن مفاهيم الإسلام السياسي العربي وإن كنا نجد كثيرا من المشتركات.
في تركيا ربما تستطيع أن تعزف على وتر أنك محاط بالأعداء من عرب وفرس وروس وأوروبيين، وربما تستطيع أن تغني على ألحان المذهبية والعرقية حتى ما لا نهاية، كما يمكنك أن تشعل أعنف المواجهات الكلامية حول الأيديولوجيات، لكن هذا كله لا يطعم خبزا، ما يطعم الخبز هو حالة الإنسان في إطاره الفردي والجماعي، قدرته على العيش بحد أدنى من الكرامة والأمان وبالتأكيد إحساسه بأنه كيان حر، جوهرة هذا العالم ومحروسه.
ليس الغرض من كلامي التشجيع على البراغماتية الأنانية والمصلحية السطحية، فهي آفات الآفات وواحدة من أدنى مراتب تدني النفس البشرية، لكن ما أريد أن أقوله أن أجمل النظريات السياسية وأروعها ليست شيئا ما لم تنعكس على الأرض لصالح سعادة الإنسان، ربما علينا كعرب أن نتخطى حالة الخطاب الشعري والتنظير الفلسفي، ونتعلم ببساطة كيف نترجم فلسفاتنا إلى أعمال حقيقية تخدم الإنسان وتقدره، لأنه صنيعة الله والكائن الذي نفخ فيه من روحه.
إعلامي وكاتب