بالعودة قليلا إلى الوراء في محاولة لقراءة تاريخ الشعوب التي عانت من الاضطهاد، الظلم، القمع، الإبادات، التطهير العرقي وإلغاء الهوية بكل ما في معانيها وعلى جميع أصعدتها، العرقية، الثقافية، الإجتماعية، الدينية، السياسية والإنسانية.. نجد أن التراجيديا هي نفسها والصورة في نقطة معينة لا تريك إلا المشهد المأساوي ذاته، والمعادلة بين الإنسان والسلطة صعبة في ظل غياب الأخلاق والقيم وغياب الإنسان بعينه، وبروز الإنسان الغريزة ونزاعه مع نفسه وحبه في السطو والحكم والتفرد لا يختلف باختلاف لونه ولا دينه ولا عرقه...
بدءاً من كوني إنسان في البداية وليس بدءً من كوني أرمني أنتمي إلى هذا الشعب الذي عانى منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وواحد من أحفاد الذين عاشوا تلك الحقبة السوداء من محاولات قتل وتهجير قسري وعمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي طال ذلك الشعب بدون استثناء، أحاول النظر للصورة من المنطلق الإنساني البحت لعلي أرى تفسيراً لما حدث بعيداً عن التراجيديا الذي عاشه شعبي من مجازر وظلم وحرمان، فلا أجد نفسي بعيداً عن الواقع الذي ينقلني في كل مرة إلى ذات الصورة المظلمة وإلى النقطة السوداء نفسها في تاريخ الإنسانية، لأن ما حصل من جرائم لم تكن جرائم ضد الشعب الأرمني فقط، لا بل جرائم بحق الإنسانية أجمع..
أما بكوني أرمني سوري وبناء على ذلك أريد أن أوصل رسالتي لشعبي الذي عانى من كل ما ذكرته سابقاً، واليوم يتم استجراره مجدداً إلى داخل لعبة من الممكن أن تتسبب بأضرار كبيرة له..
إلى كل سوري أرمني ترعرع وعاش في هذا البلد الذي أعطاه الكثير كما هو أعطى لهذا البلد.. هناك عمليات تصعيد وتضخيم ولعبة تجري في الخفاء بما يتعلق عن الأحداث الجارية في كسب في يومنا هذا، وعن الأكاذيب التي تروج لها يومياً عن المجازر التي ترتكب بحق الأرمن هناك، أتمنى أن نحكم عقولنا وأن لا نستدرج ونكون جزءً من هذه اللعبة التي يحاولون من خلالها تغيير الواقع والماضي الأليم الذي عاشه هذا الشعب، في محاولة استخدام المأساة والعاطفة الأرمنية وذلك التاريخ الأسود الذي أصبح جزءً من شخصية كل فرد في المجتمع الأرمني أينما كان، واللعب على هذا الوتر لاستدراجهم في لعبة لتشويه الحقائق وما حصل في الماضي من خلال استعمال الحاضر، لعبة سيخرجون منها الأرمن خاسرون.. هناك أطراف تلعب على أساس قوة اللوبي الأرمني في الخارج وعلى أساس أفراد من أصل أرمني لهم نفوذهم في العالم، هذه الأطراف التي تعمل على الحقن الطائفي وعلى فبركة مقاطع مصورة ومن ثم نسبها كذباً للوبي الأرمني، على أساس مجازر جديدة أرتكبت ضد الأرمن في مدينة كسب ذات الغالبية الأرمنية، وهي جزء من سوريا التي تعاني من حرب دامية... والعملية بحد ذاتها لا تعتبر إلا تصعيد للوصول إلى غايات معينةً..
ما هي أسباب دخول مدينة كسب؟.. ولماذا بهذا الوقت بالتحديد؟.. وهل تعتبر كسب منطقة استراتيجية؟.. ومن المستفيد من هذا الدخول؟..
تعتبر quot;مدينة كسبquot; مدينة تاريخية للأرمن وتعود للقرن العاشر قبل الميلاد، وهي آخر معقل لهم بعد احتلال مملكة كيليكيا وانهيارها على يد العثمانيين الأتراك، والأرمن فيها يعودون إلى تلك الحقبة ولهجتهم الأرمنية منفردة، ولهذه المدينة طابع خاص لدى الأرمن.. تقع المدينة في منخفض تحيطه الجبال من كل الأطراف، ولا تعتبر منطقة استراتيجية تستطيع أن تلعب دوراً في قلب موازين القوى في الصراع الجاري في سوريا، مع العلم أن كسب هي معبر للوصول إلى نقاط أخرى من ريف اللاذقية، ولكنها ليست الوحيدة.. كما لم يكن لسكانها أي دور في الحرب القائمة في المنطقة، فسلمية أهل هذه البلدة أبقتهم في الحياد الوطني ولم يقفوا مع أي طرف من أطراف النزاع.. إذن من البداية كان الهدف من دخول هذه المدينة وافراغها من سكانها لعبة سياسية قذرة لعبت بحنكة، غايتها زج الأرمن في الصراعات المسلحة والطائفية من طرف، ومن طرف آخر جر اللوبي الأرمني في الخارج إلى داخل هذه اللعبة لتشويه الماضي الذي لا تستفيد منه إلا حكومة أردوغان، وعلى علم الجميع وعلى قول المثل الشعبي السوريquot; على عينك يا تاجرquot; لعب الجيش التركي دوراً كبيراً في نجاح عملية دخول هذه المدينة، كما أيضاً هناك بعض الأطراف الأخرى الموجودة على أرض الواقع تلعب في الخفاء لها مصالحها وغاياتها من هذه العملية، وهذا كله قبيل الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية!!..
إذن كل شيء واضح حيث بدأ الإعلام يلعب دوره في نشر هذه الصورة التي تبين أن اللوبي الأرمني بدء في تصعيد الأمور، بينما في الحقيقة، الواقع يختلف مع هذه الرؤية، لأن ما تفعله الجاليات الأرمنية في الخارج ما هي إلا عبارة عن حق مشروع لكل شعب يدافع عن حقوق شعبه في البلدان التي تتواجد فيها هذه الجاليات، مثلها مثل غيرها من الدول والأقليات الشرق أوسطية والعالمية، مع أني لا أحبذ ذكر مصطلح quot;الجالياتquot;، لأن الأرمن أينما وجودوا، أية دولة كانت، أعتبروا أنفسهم جزء لا يتجزء من نسيج هذه الدولة، لهم واجبات مثل ما لهم حقوق، والشعب الأرمني إن كان في سوريا أم في غيرها من البلاد، مخلصون للأرض التي ترعرعوا فيها، كما قدموا لهذه البلاد في جميع المجالات وعلى جميع الأصعدة، الثقافية، السياسية، الأقتصادية، الاجتماعية والكثير غيرها، ولبنان ومصر ودول أخرى كثيرة شاهدة على ما أقول...
إن ما يحصل في الآونة الأخيرة، من تصعيد دولي ومن فبركة مقاطع مصورة، غايتها ليست إلأ تأجيج الوضع العام والعمل على جر الأرمن للدخول في الصراع المسلح القائم، كما أستطيع أن أقول أن ما حدث من دخول مسلح إلى هذه المدينة وتفريغ سكانها وأهلها منها كما حدث هذا سابقاً في مدن سورية أخرى، بعيدة كل البعد عن كل القيم والأخلاق الإنسانية، من أي طرف كان، وفي نفس الوقت أنوه أيضاً أن المدينة كانت فارغة تقريباً عند دخول المسلحين إليها، وعمليات النزوح كانت قد تمت قبل ساعات من دخول تلك الجماعات إلى كسب، هذا يعني أنه ليست هناك أي عمليات قتل أو مجازر أرتكبت ضد الشعب الأرمني في مدينة quot; كسب quot;.. لذلك يجب أن يكون الشعب الأرمني في الداخل وفي الخارج متيقظاً وأن لا ينجر إلى ما قد خطط له مسبقاً منذ بدء هذه العملية، وأن لا يكون ورقة تحرق بعد أستعمالها، وأن نتريث قبل أي فعل وقبل اتخاذ أي قرار أو أي خطاب من الممكن أن يدخلنا في معمة نحن بالغنى عنها..
هناك لعبة خفية تدور خلف الكواليس، والأيادي فيها كثيرة ولكل منهم غايته ومصلحته، وما أخاف منه أن نكون من سيدفع الثمن ثانية، وأن يكون هذا كله مجرد تحضير لتراجيديا مأساوية جديدة تضعنا مجدداً أمام مجازر دموية، وهكذا يعيد التاريخ نفسه، ونكون كبش الفداء لتغيير الوضع القائم تحت غطاء حماية الأقليات...
هذه رؤيتي الشخصية.. ولكم الحق في طرح ما أنتم ترونه..
التعليقات