بعد ان وقف الجنرال ديغول في قلب مدينة كيبيك عاصمة المقاطعة الكندية الناطقة بالفرنسية، مطلقا هتافه الشهير، ( لتعش كيبيك حرة )، اندفعت المشاعر الانفصالية لدى العديد من سكانها، خصوصا هؤلاء الذين ينتمون بالثقافة والروح إلى فرنسا. وبدأت الدعوة لتنظيم استفتاء على استقلال المقاطعة عن كندا.
جرى الاستفتاء الأول فيعام 1979، غير أن هزيمة كبرى كانت في انتظار دعاة الانفصال، وحين قرروا معاودة المحاولة، بعد 15 عاماً، في عملية استفتاء ثانية، كان الفشل مصيرها أيضا، لكن الهامش ضاق هذه المرة، وكانت النتيجة 49.9 %& لمؤيدي الانفصال، مقابل 50.1& % لرافضيه.
لم يزد الفارق بين راغبي ورافضي الانفصال عن .0200 % ، لكن الأمور انتهت عند هذا الحد، وكف أصحاب دعوى الانفصال ، منذ ذلك الوقت، عن إثارة الموضوع مرة أخرى، على الرغم من النسبة الضئيلة التي حسمت بها النتيجة. على اعتبار ان أبسط قواعد الديمقراطية تشير الى أن الصندوق هو الحكم، وان المنافسة التي تتم بين المتنافسين، ينبغي ان تجري بين اطراف، وان يتقبل كل طرف النتيجة النهائية، مهما جاءت على غير هواه.
حدث هذا في بلاد كثيرة، بعيدة في العادة، عن منطقتنا التي لايزال فيها من يصدع رؤوسنا صباحا ومساء، بحديث ممل عن الديمقراطية، واصول اللعبة الانتخابية، بينما يضيق " قفصه الصدري " بشدة، كلما اخترقت أذنيه كلمة لمرشح يخوض المنافسة على الجانب الآخر، ضد من قرر هو الانحياز الى صفه، وكأن المطلوب لكي تتم العملية الديمقراطية وفقا للمقاييس التي يراهاه، وان يتنافس فيها مرشحه مع نفسه، على ان يتحقق له الفوز بماركة ال 99.999 % المسجلة عربيا.
ليس الأمر يعني بلدا بعينه، فبالنظر الى مشهد " الديكور الديمقراطي العربي"، يكتشف المرء ان العملية، ليست اكثر من مجرد محاولة لتجميل المسكن، لا أكثر ولا أقل، انتخابات لا تشبه الانتخابات، وممارسة لاقتراع على خشبة مسرح متسعة، ونتائج تكون معروفة على الأرجح، قبل وقت طويل من اليوم المحدد للاقتراع، بل واحيانا تكون نتيجتها محسومة حتى من قبل أن تقوم الأجهزة المعنية باعلان الدعوة للانتخابات.
انها ديمقراطية يتم تفصيلها على المقاس. تخرج من " مشاغل الخياطة " وعبر ترزية للقوانين، عادة ما يكونون على قناعة بأن أحدا لا يعنيه ما جرى، ولا هو في الأصل قادر على مخالفة ما ترغب فيه سلطة، اعتادت حشد القطيع في الاتجاه الذي ترسمه، وباتت لا ترى غيرها في إطار الصورة، فهي في ملعب الوطن، عادة ما تنوب عن فريقي اللعب توفيرا للجهد، وهي تتولى مهمة الحكم أيضا اشفاقا عليه، وهي المعلق المثبر للحماس، وهي التي تشاهد نيابة عن الجمهور أيضا.
ديمقراطيتنا العربية مبدعو، وهي في العادة، أقرب الى المزحة، ولها بين فترة وأخرى، قدرة فائقة على جلب أقصى درجات المفارقة، فمن يصدق مثلا، ان ديمقراطية كهذه، تنجب مرشحا يذهب على كرسي متحرك الى صندوق اقتراع كي ينتخب نفسه؟ ومن يصدق ان رئيسا يقدم نفسه مرشحا، كي يواصل حكم بقايا من ظل من شعبه على قيد الحياة؟ وان ثالثا بعد كل ما شهدته الساحة العربية خلال الثلاث سنوات الماضية، يبدأ مشواره بلا برنامج، اللهم إلا بإصلاح ذات البين لمن تخاصما. بينما يتحدث انصاره عن اطمئنانهم شبه التام لفوزه بنتيجة الانتخابات، على الرغم من أن عددا كبيرا منهم لا يكف عن التعبير صراحة عن ضيقه من تجرؤ المرشح الآخر عن التقدم للمنافسة؟
لم يسأل أحد من هؤلاء نفسه عما اذا كان هذا الضيق منطقيا، في ظل الحديث عن أن الأمر لا يعدو مجرد انتظار لاعلان النتيجة بشكل رسمي. فيما يضع هؤلاء في بطونهم ( بطيخة صيفي) من الان، معتبرين ان الرئيس القادم سيكون على وجه اليقين، مرشحهم المفضل.
وما دام الامر مضمونا الى هذا الحد، فلماذا التأفف من المنافسة؟ ولماذا لا يعتبرون ان ذلك التنافس، يقدم أكبر خدمة للتجربة الانتخابية؟.
غير ان المشكلة هي في حقيقتها أعمق من تنافس طبيعي في انتخابات، انه في ضيق الصدر الذي لم تنجح ثورات متتالية في تجاوزه حتى الان، وهو ألم ضاغط، يشعر به من يرون أن أنصار الطرف الآخر المنافس، ليسوا مجرد منافسين في لعبة ديمقراطية، بل أعداء ينبغي تشويه صورتهم والتخلص منهم، والسعي لاختلاق أساليب تطعن في نزاهتهم.
هذه المرة تختلف الأمور، لكن الأجندات تظل كما هي، ويظل الاندفاع الشعبي ينطلق من تحريض مقصود، ومن طعن في الوطنية، كأن احدا لم يتعلم شيئا من الدروس التي مرت، خلال السنوات الثلاث المفعمة بالأحداث، حتى وان كانت ضريبتها بالغة القسوة، قد أصابت في العمق تلك الثقة التي كان الشعب يوليها لسلطات بلاده
تبدو التجربة الآن، مرشحة لجلب شروخ جديدة، شباب لديه ما يدفعه للغضب، وصدور شديدة الضيق، يتم مقابلة ذلك بالتمادي في اعتبار أن المنافسة، هذه المرة، ليست أكثر من جرأة غير مأمونة العواقب، وفي ظل تشكيك كبير، واتهامات وصلت في بعض الاحيان الى حد الوصم بالعمالة.
فهل تحت خيمة أجواء مشحونة كهذه، يمكن ممارسة تجربة ديمقراطية حقيقية؟
&