ما يزال العديد من الباحثين والمتابعين للشأن الثقافي والسياسي، يقلبون النظر في أطروحة الدكتور رضوان السيد، التي أثارها في مقاله في الشرق الأوسط (8 أبريل/ نيسان2014) الذي خلف ردود فعل كثيرة بين رافض لما طرحه، وبين متحفظ على بعض ما جاء فيها.
أعاد الدكتور رضوان التأكيد على طرحه- هذه المرة- في مؤتمر" مؤمنون بلا حدود" الذي انعقد بمراكش 17/18-05-2014 بشيء من التفصيل والتحليل؛ حيث شن هجوما مزدوجا على العلمانيين و العقلانيين " أصحاب الاسلام هو المشكلة" وعلى السلفيين و الجهاديين" أصحاب الاسلام هو الحل" حيث حملهما مسؤولية تدمير "التقليد" الذي يعتبر صمام الأمان للمجتمعات العربية من التفكك، وسدا منيعا ضد الأطماع الخارجية وتحديدا من إيران. كما سلط أيضا سهام نقده على ما أسماهم ب"الوسطيين" الاخوان المسلمون" الذين يريدون تحويل الشريعة إلى قوانين، ويسعون لتوظيف ورقة الدين، للوصول إلى السلطة والحكم.
ودعا إلى العودة إلى المؤسسة الدينية التقليدية، والبحث في الموروث الديني عن جوانب القوة فيه، بدلا من الانكباب على تدميره، بدعوى أن ذلك يخدم المجتمع العربي، ويساهم في تنويره وتطويره، في حين أن هذا العمل التفكيكي؛ الذي استمر ردحا من الزمن لم يفض إلى شيء؛ بل كان يخدم من حيث لا يدري أصحابه؛ دولا إقليمية ؛ ويهيئ لها الأرضية للهيمنة على المنطقة العربية.

وقفة سريعة مع بديل رضوان: العودة إلى " التقليد"
إن الدعوة إلى التشبث بالتقليد ومؤسساته؛ دعوة إلى تكريس " مأسسة الدين" أو " مأسسة الوجدان" لا شك أنها تنطوي على كثير من السلبيات؛ بحيث أن الناظر في تاريخ المؤسسة الدينية التقليدية نشأة ووظائف وأدوارا، كانت في غالب العصور رهينة السلطة السياسية (الحكام) مندمجة في أنشطتها، ومسوغة لممارساتها، ومشرعنة لقراراتها، ولعل هذه واحدة من الأسباب التي جعلت هذه المؤسسة الدينية تستمر في التاريخ حتى أصبح التخلي عن خدماتها صعب المنال والمراد، وظن الكثير أن إقامة الدين رهن بوجودها.
يبدوا أن الدكتور السيد كان واعيا بهذا الاشكال، ولذلك أكد في كلمته على ضرورة تأهيل التقليد بطريقة ما، لتجنب أي احتكاك معه؛ أي المؤسسة الدينية تكون وظيفتها تأمين الحاجات الروحية، والدولة تتكفل بتأمين الحاجات المادية؛ وهذه القضية ؛ قضية الفصل بما يشبه " العلمانية" أو "تمسيح الإسلام"، صعبة الانجاز في ظل أنظمة سياسية تقوم شرعية وجودها واستمراريتها على دعم المؤسسة الدينية، إضافة إلى معطى لا يمكن القفز عليه، الا وهو واقع التخلف والجهل وغياب الحريات...
إذن، الطرح الذي قدمه رضوان لتجاوز دعوى التنويريين والسلفيين والوسطيين، يعتريه شيء من الصعوبة في التطبيق، وحيازة رضى الجميع؛ لأن المواطن العربي فقد الثقة في المؤسستين؛ السياسية والدينية، بإعتبارهما أضحتا مصدر الفساد والاستبداد.
يمكن أن نفهم ما ورد في ثنايا كلمته، وبعض ما ورد في مقالته الآنفة الذكر، من منظور "جيو سياسيي"، الذي يعتبر أن الدول العربية ذاهبة في اتجاه التفكك والتشظي؛ وباستحضار قضية سوريا وتداخلاتها مع الدول المجاورة(لبنان- إيران- العراق- اليمن) وبروز الأقليات المنادية بحقوقها واستقلالها، مما يشي بانهيار الدولة الواحدة، ناهيك عن الحديث عن توحيد المواقف بين الدول العربية؛ حيث تضاربت فيما بينها، على خلفية رياح التغيير التي هزت مجموعة من البلدان العربية، وانقسمت سياساتها بين مؤيد لهذا الحراك وداعم له، وبين رافض للتغيير ومجهض له. لكن يبقى ما طرحه الدكتور رضوان فضلا عن تناغمه مع الموقف الخليجي العام؛ فهو بمثابة "تكتيك" موقف ظرفي –بنظرنا- قد لا يصمد على المدى البعيد، على فرض تحققه بالشكل المطلوب، لأن توظيف " التقليد" l’aryanité بمؤسساته لمحاصرة المد الايراني، أو سياسة إحياء الايرانية ،

فإيجابيته في الظروف الحالية، يجب ألا تُنسي صناع القرار في المنطقة بضرورة بناء المؤسسات الديمقراطية، وتوسيع هامش الحرية لمواطينيها.&
&يعد د. رضوان واحد من الباحثين والكتاب –إلى جانب آخرين- يكتب ويحاضر ويؤلف ويحقق، تعبيرا عن آراءه ومواقفه، وهذا يدل على تفاعله مع قضايا الأمة والتحديات التي تعيشها، رغم ذلك يسجل المتتبع غياب النخب المثقفة من كلا الساحتين السنية والشيعية، عن مثل هذا النقاش المصيري، لاسيما أن ما طرحه رضوان يحتاج إلى نقاش من لدن المثقفين الشيعة العرب تحديدا.
&statu quoصحيح، أن الوضع يتسم بحالة جمود
بحيث ان العديد من النخب توقفت عن التفاعل مع قضايا الأمة الآنية، وبدت كأنها تتفرج عن مقابلة في كرة القدم، ليس عيبا إذا كانت قد عولت على رهانات قد تهاوت، هذا لا يبرر غيابها وتواريها عن الواقع، فيمكن ان تنهض من جديد لتجدد أفكارها ومواقفها وفق منظور حديث، لذلك يحسب للدكتور رضوان أنه ظل متواجدا ومتابعا لما يجري في المنطقة من متغييرات يمد صناع القرار العربي، بمقترحات بغض النظر عن صوابها أو خطئها.

&من المؤسسة الدينية إلى " ديانة" الضمير الفردي
في خضم الظروف العصيبة التي يمر منها العالم العربي، التي تتسم بلحظة الانتقالات الكبرى، والانقلابات الاستراتيجية، وكأننا – أو يخيل لنا- أننا نعيش حالة فوضى؛ وهذا قول يصدق على بعض البلدان العربية التي شهدت سقوط أنظمتها، لكن يمكن اعتبار تلك الفوضى حتمية شهدتها كثير من البلدان الأوربية التي انتقلت من طور الاستبداد إلى الديمقراطية، لا شك أن هذه الفوضى الظرفية ستفتح إمكانات تفكير جديدة للأجيال الصاعدة، وكذا آفاق إنسانية رحبة. ومن ثمة، فبعد ربيع ثورات العرب تزاحمت الساحة السياسية بآراء واتجاهات وخطوط متضاربة، البعض رأى في نقد التراث والموروث الديني نقدا جذريا مخرجا من الأزمة، والبعض الآخر –على النقيض من ذلك- دعا إلى التحرر بالتراث، والبعض الآخر كذلك، دعا إلى تسديد وترشيد الحركات والتشكيلات الأكثر تنظيما وجاهزية بغض النظر عن محتوى مشروعها، أمام هذه الخيارات يرى الدكتور رضوان أن لا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بالعودة إلى التقليد لكن ليس بالشكل الذي يطرحه التيار السلفي أو الإخواني، كما أنه يرفض الأطروحة التي تقوم على تدمير التقليد كخطوة أولية للتقدم من قبل( العقلانيين و التنويرين)؛ فالتقليد –بنظره- يقول بمشاعية العقل في تأويل النقل. ضمن هذا السياق، يمكن الفرز منهجيا بين أطروحة رضوان التي تحدد المشكلة في الواقع العربي؛ وهذا ما يجعلها متماسكة سياسيا، ومفتوحة معرفيا على تأويلات عدة، أما الاتجاه الآخر الذي ينتقده فهو يحدد المشكلة في العقل العربي، مما يجعلها مقبولة نظريا ومبدئيا، لكنها غير واقعية أو ليست ذات أولوية في الظروف الحالية.
يمكن القول، أن المفكر اللبناني، قد أحسن تشخيص، وقراءة الواقع السياسي الحالي للمنطقة العربية، بدقة وتفصيل، لكن الحل الذي اقترحه، غير مسنود بآلية عملية تبعد المؤسسة الدينية عن أي تدجين من قبل السلطة الحاكمة من جهة، ثم أن المقترح سيفضي إلى تكريس حالة التطييف -الزيادة من حدتها-(سنة وشيعة) وعودة الجدل المذهبي بعدما طواه الزمن.
من الصعب أن يعود قطاع كبير من الناس إلى المؤسسة الدينية التقليدية، ولذلك، بماذا نفسر انخراطهم في مؤسسة " الاسلام السياسي" لأنها لم تعد تلبي حاجاتهم الروحية، وتفرض عليهم قراءة معينة للدين، والشيء ذاته، يصدق على حركات الاسلام السياسي، التي هي الأخرى؛ قد رهنت مشروعها حول أفكار / أوهام، قائمة على قراءة خاصة للدين تخصها لوحدها. هكذا ، نجد أنه لا " التقليد" رسميا كان أو شعبيا، ولا " الاسلام السياسي" إخواني كان أو سلفي أو جهادي، بقادر على حل مشكلات الناس الدينية ومعضلاتهم الاجتماعية وبقادر على توحيد صفوفهم ولم شملهم.
انطلاقا من اتجاه مجتمعاتنا اضطرارا نحو الحداثة، بات من الضروري اجتراح معنى جديد يتلاءم والتحولات المتسارعة في عالم اليوم، والقضية راهنا، ليست في العودة للموروث أو إلغاءه، وإنما في إعادة تأويل هذا الموروث، والسعي لإعادته لأصله الأول، أما مأسسة الوجدان فوضع طارئ.
إن تعزيز "ديانة" الضمير الفردي بتعبير الدكتور التونسي محمد الحداد وفتح المجال للتجارب الروحية الفردية، القائمة على التأمل الانساني الحر، هي الطريق الوحيد لإبعاد ساحات الدين ومساحاته من تأميم الدولة له.
&
&