من مفكرة سفير عربي في اليابان

&&اتذكر حينما كنت طفلا صغيرا كان والدي رحمه الله، كباقي أصدقائه في تلك الفترة، يؤكد دائما على أهمية الوقت ليقول: "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك." وكان يكرر على أهمية العلم فيقول: "من طلب العلى سهر الليالي." كما كان يصر على أهمية السلوك السوي، والانضباط، والأخلاق، والفضيلة، كوسائل مهمة للتوفيقن والنجاح في الحياة. وأما عن أدب فن الكلام فقد كان ينصح: "إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب." و "خير الكلام ما قل ودل." و "حصانك لسانك إن صنته صانك وإن خنته خانك." بل ويصر على: "إلا نفتح أفواهنا إن لم نستطع أن نقول كلمة حسنة في حق الآخرين."
وكان رحمه الله، يأخذني مساء كل ليلة جمعة لزيارة مجلس رجل دين. وأتذكر حتى هذه اللحظة، وبعد عقود طويلة، كيف كان هذا الرجل حكيما، رزينا، وقورا، يجمع بين الخلق الجميلة، والسلوك الحسن، والحوار اللبق المهذب، ولا يخرج عن مناقشة أصول الدين وفروعه، والعبادات الملزمة فيه. فلم يحاول أبدا أن يدنس شخصه بأمور الدنيا المالية، أو النزاعات السياسية المراوغة، بل كان مثلا لرجل السلوك، والأخلاق، والفضائل، والروحانيات. وقد كانت أجمل لحظات طفولتي حينما أكون منهمك في المراجعة، مع زميل لي في الدراسة، ويؤذن أذان المغرب، ونتهيئ لروحانية أداء فريضة صلاة المغرب، لنصلي في المسجد بقيادة رجل دين فاضل. وفي تصوري بأن معظم شباب جيلي عاش ما عشته، وسمع ما سمعته، وحلم بمثاليات اخلاقية وروحانية جميلة.
&وفي الحقيقة، أنصدم اليوم حينما أجد رجل دين، يعتبر نفسه معارض سياسي، ويصعد على منبر رسول الهدى، بدل أن يمضي ساعة من الخطابه في الروحانيات، ويدعو الشباب للخلق السوية، والانضباط، واحترام الوقت، والالتزام بقدسية العمل، ونشر فضائل الاخلاق بين افراد المجتمع، وشرح علاقة العبادات بتطوير السلوك البشري وسموه، ونشر التناغم والتعاطف في المجتمع، والحث على العلم والمعرفة والإنتاجية والابداع، تجده يصعد على هذا المنبر المقدس ليلقي خطابا سياسيا مؤسفا، يرضي به من يغذيه بالمال والجاه، ليسيء للدولة، وأفراد الشعب، وقياداته، بتصريحات غير لبقة، وغير متزنة، بل ويعلي بصوته بضرورة الثورة والانقلاب، على الميثاق الوطني، والدستور، بينما هو يكرر كلمة الحرية، تلو الحرية، والمساواة، تلو المساواة، والديمقراطية تلو الديمقراطية.
ولو نتابع حقائق الواقع لنجد هذا الشخص لا يؤمن لا بالحرية ولا بالمساوة، فلو انتقد أحدا أفكاره السياسية المتطرفة، يصبح كافرا. وحينما يشارك في الانتخابات يفوز بالتزكية، ولا يعطي فرصة، حتى لحلفائه في السياسة، بل ولا يعطي حتى فرصة واحدة، لامرأة لتنجح في انتخابات البرلمان، بينما هو ينادي نظريا بالحرية، والعدالة، والمساواة، ولا يعترف عمليا بنصف المجتمع من النساء. بل تجده أيضا يتزعم حزب سياسي، في الوقت الذي عليه واجب مسئوليات روحانية جمة، كرجل الدين، لا بل وينجح دائما بالتزكية في رئاسة جمعيته، لأن لا أحد يجرأ منافسته في الانتخابات، وإلا أصبح منافسه مرتدا كافرا، ذلك ليبقى "فضيلته" عقود طويلة على كرسي الزعامة بدون منافس، وبدون أن يحقق لشباب الوطن لا الاصلاح، ولا التنمية، ولا تطوير التعليم، ولا تحسين الرعاية الصحية، ولا توفير السكن المناسب، ولا الوظيفة المناسبة. في الوقت الذي يوعد مؤيديه مرارا وتكرارا بقصور في الجنة، مع حور عين، وصل عددهم مؤخرا لحوالي العشرين ألف، بين حورية ووصيفة، وكأننا أمام مزاد صكوك الغفران، ودخول الجنان، وبيع الحوريات، بل قد وصلت به عقدة عظمة الزعامة لكي يقيد المعارضة بأكملها، من يمينها إلى يسارها.
ويؤسفني أن أقول بأن هذه الفئات لها دورا محزنا في وضع العصاة في عجلة النمو الاقتصادي والاجتماعي في مجتمعاتنا العربية. بل شجعت على هروب رؤوس الاموال الاجنبية، بل حتى الوطنية للخارج من البلاد، كما لعبت دورا مؤسفا في نشر التطرف والطائفية المقيتة في المجتمع. فقد شوهت منابر هؤلاء، المقنعين بقناع الدين الذكاء الذهني، والعاطفي، والأخلاقي، والاجتماعي، للكثير من اجيال المستقبل، ليصبح جيلا غاضبا، انفعاليا، مشاكسا، وبعيدا عن الرصانة والحكمة، والخلق السوية، بل ولتكتمل هذه الشخصية بالضعف لتقاد بسهولة، بالإضافة لتطرفها في التفكير، مع انعدام الإبداع، وقلة الإنتاجية، وخوف مميت من عذاب القبر، والثعبان الاقرع.
&&وفي نفس السنوات التي استمرت هذه المنابر المتشائمة في البكاء، والنحيب، والانتقاد، حقق المجتمع البحريني، بجدارة شعبه، وحزم ورصانة قيادته، معجزة اجتماعية واقتصادية وصناعية، وخلال ثلاثة عقود من الزمن، بعد أن تركها المستعمر قرية تاريخية صغيرة، في بداية السبعينات. ولتكمل كل هذه النجاحات بخطوات مباركة من الاصلاحات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، مع بداية الألفية الثانية، بعد أن صوت 98.4% من الشعب على الموافقة على ميثاق عمل وطني، يحول البلاد لمملكة دستورية عصرية، تنفصل فيها السلطات الثلاث التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، مع وضع دستور للبلاد، يمكن تطويره تدريجيا مع الوقت، مع زيادة المشاركة الديمقراطية للمؤسسات الشعبية، والوطنية.
فلقد عانت مملكة البحرين خلال العقد الماضي من معارضة متقلبة، ومفتتة، وانفعالية، فيوم تريد أن تقاطع الانتخابات، وفي يوم اخر تريد أن تشارك فيه، ولحظة تطالب بمحاصصة طائفية، ولحظة اخرى تنفي، ويوم تنادي بالمملكة الدستورية، ويوم أخر تريد أن تنقلب على الدستور، بل وتعلن عن الرغبة في نظام جمهوري ثيولوجي. ويبقى بين هذه الفوضى السياسية المواطن العادي المسكين، وليضيع الشباب في دوامة من التفكير المتقلب، وليعاني الاطفال طفولة متناقضة، وليتحمل الطلبة من ارهاصات تعليمية معقدة، ويبقى المعيل البائس محاولا البحث عن عمل يضمن به مستقبل عائلته وأولاده. وقد يتساءل البعض لو أن هذه المعارضة، فرغت رجل الدين للأمور الروحانية والاخلاقية، واختارت كفاءات تكنوقراطية متميزة، وتوجهت نحو العمل السياسي بحكمة ورصانة، فشاركت في الانتخابات، وعملت بشراكة تالف متناغمة مع الفئات الاخرى في مجلس النواب، وتفاهمت حول ملاحظاتها مع الحكومة بهدوء واحترام ووقار، ألم يكن التاريخ البحريني مليء بالانجازات التنموية العملاقة، كسنغافورة، خلال العقد الماضي؟
والمسكينة الضائعة بين جميع هذه الارهاصات السياسية هي المرأة ذات المسئوليات الكبرى، فهي ست البيت المنضبطة، والزوجة المخلصة، والام الحنونة، والموظفة المنتجة، بالاضافة لمعاناتها في أجواء ارهاصات سياسية معقدة، في الوقت الذي هي انسانه تحتاج تحقيق امال نفسها، وسعادتها، وطموحاتها. والجدير بالذكر بأن المعارضة البحرينية لم تعترف بالمرأة البحرينية حتى الآن، فلم تدفع حتى بامرأة واحدة للبرلمان، ولا للمراكز الحكومية، ولا حتى لمناصب هامة في قياداتها السياسية، وكأن ليس لها وجود في المجتمع، مع أنها تمثل نصف المجتمع المتعلم والمنتج. وقد يكون الوقت مناسب لتبدي المرأة برأيها وطموحاتها في الانتخابات البرلمانية القادمة، لتضمن مستقبل لاطفالها، وتنمية وطنها، وتطور مجتمعاته المستقبلية. فلم يبقى بيننا وبين الانتخابات القادمة الا بضعة اسابيع، وحان الوقت لأن تأخذ المرأة حقها في تقرير مصير هذا الوطن، ومنع العابثين بمقدراته، لترفع الاغلال التي حبسها فيه من لبس قناع الدين، ليحقق مآربه السياسية.
وهنا لتسمح لي عزيزتي المرأة البحرينية لطرح الأسئلة التاليه: بينما تصرخ المعارضة السياسية البحرينية، المقنعة بقناع الدين المطالبة بالديمقراطية نتساءل، اليس هناك مفارقة كبيرة بين نسبية وانتهازية السياسة، ومطلقية وروحانية الدين؟ ألم يصبح العالم في الالفية الثانية مجتمع أختصاصات متعددة ومتباينة، فالمعلم درس سنوات طويلة ليخلق جيلا يستطيع أن يتعامل مع تحديات العولمة، والمحامي تدرب لكي يدافع عن المواطنين، والاقتصادي تعلم لكي يخطط ويتعامل مع الارهاصات الاقتصادية في المجتمع، وأما رجل الدين درس سنوات طويلة ليتبحر في علوم الدينية المتشعبة، بينما يبقى رجل السياسة رجل المراوغة والانتهازية، يغتنم أية فرصة مؤاتية ليتآلف، ويتناغم، مع معارضيه السياسيين، لكي يحقق رغبات منتخبيه؟ كما قد نتساءل هل الأولويات التي تنادي به المعارضة الثيولوجية تتوافق مع حاجيات العصر الذي نعيش فيه، وفي القرن الحادي والعشرين، ومع بدأ الثورة الرابعة؟ وما هي نوع الديمقراطية التي تطالب بها؟ هل هي ديمقراطية على النمط الغربي، أم ديمقراطية على النمط الثيولوجي الايراني؟ وقد يتساءل القارئ العزيز: وما هي الثورة الرابعة؟ فلنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان