من مفكرة سفير عربي في اليابان
وصلتني رسالة على شبكة "الوتس أب" من صديق، تضم فيديو، عن مقابلة تلفزيونية، يتحدث فيها الدكتور خليفة بن محمد المحرزي، رئيس المجلس الاستشاري الاسري- دبي، ليقول: "انظر لتجربة بسيطة جدا، تعكس الثقافة العربية. في أحدى المراكز البحثية، قاموا بتجربة سلوك اجتماعية. اخذوا اثنى عشرة محفظة نقود، وبكل واحدة منها ثلاثة الاف ين ياباني (ثلاثين دولار امريكي)، ووضعوها في اثنى عشر موقعا، في المترو، ومواقف السيارات، والمطاعم، وفي مختلف المدن اليابانية، وابتعدوا عن مكان المحفظة، وراقبوا سلوك المواطن الياباني، حينما يلاحظ هذه المحفظة الضائعة. وقد كانت نتيجة البحث متشابه تماما. يأتي المواطن الياباني، فيجد المحفظة، ويقف، ويرفع المحفظة، ويرفع صوته، ويدور دائرة كاملة لكي يراه المارة، ولمدة خمس دقائق. وما هي النهاية؟ وما هي النتيجة؟ كل هذه المحافظ تنتهي في مراكز الشرطة اليابانية. اثني عشر موقعا في المدن اليابانية من أوساكا ألى هوريشيما، إلى ساساكا وحتى طوكيو، تنتهي جميع هذه المحافظ في مركز الشرطة، لتصل لاصحابها. نسمي هذه القيم بالقيم المشتركة."
ويستمر الدكتور المحرزي في حديثه فيقول: " شوف، شوف، كررت نفس التجربة في اثني عشر دولة من دولنا العربية، وفي اثنى عشر موقعا بنفس طريقة اليابان، في محطة المترو، ومواقف السيارات، وفي المطاعم، وبنفس الطريقة تماما. وكانت النتيجة متشابه في جميع دولنا العربية الاثنى عشر، وفي جميع المواقع البلدان المختلفة، أي نفس النتيجة، المحفظة تحتفي خلال دقيقتين. بل في أحد المرات ذهب الباحثون للشخص الذي رأى المحفظة، فأخذها ووضعها في جيبه، فأخبروه بأن هذه تجربة بحثية، وبان المحفظة تخصهم، وطلبوا منه ارجاع المحفظة، فرد عليهم يصرخ قائلا: والله والله هذه المحفظة محفظتي. تخيل لهذه الدرجة، وهذا ما نسميه بالقيم المشتركة. فنتيجة البحث النهائية بأن المحفظة أختفت خلال دقيقتين وفي اثنى عشر موقعا، وفي اثنى عشر دولة عربية."
تصور عزيزي القارئ، منذ هزيمة عام 1967، ومنذ انتشار ما سمي بالثيوقراطية ( الاحتكار والاستغلال اللاخلاقي للدين، لتحقيق مصالح شخصية وسياسية) في وطننا العربي، وخاصة بعد أن سرقت الثورة الايرانية من الشعب الايراني، ومن قبل ثيوقراطية سياسية، استغلت الدين في السياسة، وحاولت تصدير تجربتها إلى دول المنطقة، لم نلاحظ أية تطور للسلوك الاخلاقي والروحانيات والفضيلة في دولنا العربية، مع أننا لاحظنا ظواهر سطحية كثيرة للتظاهر بالدين. وبعد أن عرضنا تجربة عن السلوك الاخلاقي والفضيلة والروحانيات في مجتمعاتنا العربية، ليسمح لي عزيزي القاري أن نقيم نتائج السلوك الاخلاقي وقيم الفضيلة وروحانية النفس في المجتمع الايراني، وبعد 35 عاما من التجربة الثيوقراطية الايرانية. وأرجو أن لا نغضب الشعب الإيراني، فنحن نحترم هذا الشعب، ونقدر حضارته العظيمة، وموارده البشرية والطبيعية، وفي& نفس الوقت نعتقد بأن من حق الشعب الإيراني أن يختار النظام الذي يفضله، ولكن في تصورنا أيضا، ليس من حق النظام الايراني المختار أن يفرض نظامه على جيرانه، ويصدر ثورته، لا للعراق، ولا لسوريا، ولا إلى مصرنا الحبيبة، ولا إلى تونس الخضراء، ولا إلى اليمن السعيد، ولا لفلسطين المحتلة، أو المملكة العربية السعودية أو مملكة البحرين.
فلنراجع عزيزي القارئ ما حققه النظام الثيولوجي من أخلاقيات السلوك والفضيلة في المجتمع الايراني بعد 35 سنة من الحكم. فقد نشرت صحيفة الشرق الاوسط في شهر ديسمبر الماضي مقالا للأستاذ وليد عبد الرحمن يقول فيه: "طالب الازهر ايران بشكل صارم، بإصدار فتوى صريحة، تحرم، بشكل قاطع، سب الصحابة، وأمهات المؤمنين. في حين قال مصدر مسئول في مشيخة الازهر، ان: "لقاء شيخ الازهر احمد الطيب بالسفير محمد محموديان، رئيس بعثة رعاية المصالح الايرانية في القاهرة، الذي نقل تقدير بلاده لجهود شيخ الازهر في جمع شتات الامة الاسلامية، ودوره الكبير في التصدي لمحاولات اعداء الاسلام اشعال حروب الفتنة بين انصار المذاهب الاسلامية. مضيفا بأن السفير الايراني اكد على مساعي طهران للانفتاح على الازهر، وتقريب وجهات النظر بين السنة والشيعة. واثنى على دور الازهر في مواجهة الارهاب والتطرف، والذي يضرب دول العالم الاسلامي."
تصور عزيزي القارئ، بعد 35 سنة من الثيوقراطية الإيرانية، إلى إي مدى تطور السلوك الاخلاقي وقيم الآداب الانسانية، لكي تنتشر ثقافة الشتم والسب، وفي من؟ في أصحاب الرسول ألأعظم، بل في أقرب من من أهله، وخلفاء الدين الاسلامي الحنيف، كرم الله وجوهم جميعا!!
لنتدارس عزيزي القارئ ظاهرة لا اخلاقية أخرى رسختها الثيوقراطية الايرانية. فقد نشرت صحيفة الحياة في شهر ديسمبر الماضي تصريح للرئيس الإيراني، حسن روحاني، هاجم فيه الاحتكارات في بلاده، محذراً من أن الفساد يعرّض الثورة لخطر، فيما حضّ مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي السلطات الثلاث على التصدي الحازم للفساد الاقتصادي والإداري. وقال في رسالة تلاها إسحق جهانكيري، النائب الأول للرئيس، خلال مؤتمر لمكافحة الفساد: "ما أتوقّعه من السادة المحترمين، هو اتخاذ قرارات حاسمة، وعملية، من دون أي اعتبارات خاصة، وتنفيذها." وقد أعدمت إيران في شهر مايو الماضي البليونير، ماها فريد أمير خوسروي، بعد إدانته بالتورط بفضيحة مصرفية تطاول نحو 3 بلايين دولار، كانت الأضخم منذ الثورة عام 1979. وفي سبتمبر الماضي، ادين محمد رضا رحيمي، النائب الأول للرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، في قضايا فساد. كما أعلن وزير الاقتصاد، علي طيب نيا الأحد، عن كشف فضيحة فساد ضخمة، تشمل نحو 4 بلايين دولار في القطاع المصرفي، مشيراً إلى أنها حدثت بين عامَي 2006 و2012، أي خلال عهد نجاد، واستدرك بأن المصارف استعادت كل المبالغ المختلسة. وحمل روحاني على الفساد المتزايد في إيران، مضيفاً أن المال كان يُقدَّم من تحت الطاولة، وبات الآن يُقدم من فوقها، كما رأى بأن مكافحة الفساد واجتثاث جذوره، يندرجان ضمن أهداف سامية مثل الاستقلال ومكافحة الاستعمار والاستبداد. كما صرح الرئيس روحاني في كلمته أمام مؤتمر مكافحة الفساد بأنه: "لا يمكن بلوغ الهدف، من دون مكافحة شاملة للفساد يشارك فيها المجتمع المدني والشعب... وإذا أردنا تسوية المشكلات ووضع البلاد على مسار صحيح، يجب أن نكافح الفساد، وألا نرحم أحداً من المفسدين." كما نبّه روحاني إلى أن استمرار الفساد واتساعه يعرّضان الثورة والنظام لخطر، معتبراً أن القوانين غير الشفافة، والبيروقراطية، توجد الفساد، الذي ينتشر في الظلام. وتابع بأنه: "إذا بدونا ضعفاء في مكافحتنا الفساد، سيعني ذلك ضعف الثورة وعدم فاعليتها في تحقيق أحد أهدافها الرئيسة." وانتقد الاحتكارات، معتبراً أنها سبب تلك الآفة، كما أن غياب المنافسة داخل مجتمعٍ، ووجود حصرية، أمر سيئ.
كما عرضت مجلة دي ايكونوميست، المجلة الاقتصادية البريطانية، في شهر نوفمبر الماضي تقرير خاص عن التغيرات الجديدة في المجتمع الايراني، وردة الفعل العكسية التي انتشرت بين الشباب ضد النظام الثيولوجي الايراني، مما أبعدهم حتى عن المساجد، حيث أن الكثير من المساجد "الحكومية" خاوية من المصليين، كما أن ما يقارب 80% من الشابات& الايرانيات اعترفوا بأن لهم علاقة مع الشباب من الجنس الاخر. وقد برز هذا السلوك في تقرير بصحيفة ايلاف الالكترونية في العاشر من شهر ديسمبر الجاري، يتحدث عن ارتفاع أعداد الشابات والشباب الإيرانيين الذين يختارون العيش معا قبل الزواج، متحدين القوانين الصارمة، والقيود الشديدة التي يفرضها النظام الثيوقراطي في مجال العلاقات الاجتماعية. وانتشرت هذه الظاهرة حتى أن مكتب المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية اصدر بياناً يستنكر فيه هذه الممارسة بقوة.& كما نقلت البي بي سي عن الشابة سارة من طهران قولها: "أنا قررتُ ان أعيش مع صديقي لأني أردتُ أن أعرفه بشكل أفضل".& واضافت بأنه: "من الصعب على الفتاة ان تعرف الشاب بمجرد ارتياد المطاعم والمقاهي معه."&& وكان قرار سارة الإقدام على ما أصبح معروفا في إيران باسم "الزواج الأبيض"، امرا لا يمكن حتى التفكير فيه، أو تخيله، قبل سنوات قليلة، في مجتمع يحكمه رجال دين، وفي بلد يمنع مصافحة الرجل مع الجنس الآخر، كما أن العلاقات المفتوحة بين الجنسين يمكن ان تستنزل عقاباً قاسياً على من يمارسونها، ولكن بدأ أعدادًا متزايدة من الإيرانيات والإيرانيين، الغير متزوجين، يختارون العيش معا رغم ذلك.
وفي حين أن إحصاءات رسمية لا تتوفر، فان ظاهرة "الزواج الأبيض" أصبحت شائعة حتى أن مجلة "زنان" الإيرانية المختصة بشؤون المرأة أصدرت عدداً خاصاً عن الموضوع مؤخرًا. وانضم المرشد الأعلى نفسه إلى النقاش الدائر حول هذه الظاهرة. ففي نهاية شهر نوفمبر الماضي أصدر مدير مكتبه، محمد محمدي كلباكياني، بياناً شديد اللهجة مطالباً المسئولين بحملة ضد هذا الشكل من المعاشرة، وألا يبدون فيها أي رحمة.& كما جاء في البيان بان من المعيب على الرجل والمرأة ان يعيشا معاً دون أن يكونا متزوجين، ولن يمضي وقت طويل قبل ان يكون الذين اختاروا نمط الحياة هذه، قد محوا جيلا شرعياً، بجيل غير شرعي. ويبدو بأن الشباب الإيراني لا يحترم تحذيرات المرشد الأعلى. كما نقلت البي بي سي عن شخص يدعى "علي"، من طهران، والذي يعيش مع صديقته منذ عامين، تصريح قال فيه: "ان الزواج باهظ الكلفة، والطلاق أبهظ، فلماذا ألزم نفسي بشيء لستُ متأكد منه؟"&
ويشير العديد من المراقبين إلى أن ارتفاع معدلات الطلاق في إيران هو من الأسباب الرئيسية لعزوف بعض الشباب والشابات الإيرانيين عن التسرع في دخول الحياة الزوجية، مع اتفاق عائلاتهم معهم في أحيان كثيرة. كما صرح فرهاد اقطار، مدير مكتب الوقاية والعلاج من المخدرات في إيران، ان 20% من الزيجات تنتهي بالطلاق، وان معدلات الطلاق في العاصمة طهران هي الأعلى في البلاد.& ولكن خيار العيش معاً قبل الزواج ليس خيارا سهلا على الدوام، ورغم قبول بعض الآباء من سكان المدن بقرارات ابنائهم وبناتهم، فان المعاشرة ما زالت تُعد بنظر الكثيرين خطوة مرفوضة في مجتمع يبقى تقليديا بعمق. وبحسب رأي المحامية والناشطة الحقوقية، مهرنغير كار، فإن من المشاكل الأخرى عدم توفر المساعدة القانونية للشريكين، إذا حدثت مشكلة، لأن المعاشرة قبل الزواج ممنوعة قانونيا، وإذا تعرضت امرأة إلى الاضطهاد في اطار الزواج الأبيض، فإنها لن تتمكن من التوجه إلى الشرطة، لأنها وشريكها، سيُعتقلان بتهمة الزنا.
تلاحظ عزيزي القارئ ما حققته "الثيوقراطية" في مجتمعات الشرق الاوسط. ويبقى السؤال: هل حان الوقت لمنع استغلال واحتكار الدين في السياسة؟ وهل من الضروري أن تكون مسئوليات رجل الدين صريحة وواضحة حسب القانون؟ وهل يجب أن يطبق هذا القانون على الجميع لكي يحترمه المواطنين؟ إلا تفقد القوانين سلطتها حينما يستثنى منها البعض؟ وهل يتحول الاستثناء لعرف قانوني، يستبدل به القانون؟ وهل حان الوقت لكي يفرض القانون على رجل الدين حينما يصعد للمنبر، أن تكون خطبته مكتوبه، وتوجه الناس لآداب العبادات الدينية، وأهدافها، وعن اخلاقيات السلوك، وروحانيات النفس، وقيم الفضلية، وتناغم سعادة حياة الدنيا البائدة مع سعادة الاخرة الأبدية، لنحمي مجتعانتا العربية من التطرف، والغلو، والطائفية؟ ولنا لقاء.
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات