في رائعة دوستوفيسكي الشهيرة "الجريمة والعقاب"، يقول بطل الرواية راسكولينكوف لإخته دونيا معترفا: " دم يسفحه جميع الناس وسيظل يجري مع الأرض أنهارا، صحيح أنّي لم أراع قواعد الأشكال البديعة التي يوجبها الجمال، ولكن هل تعتقدين حقا انّ قذف القنابل على سكان آمنين أكثر مراعاة للأشكال البديعة وتقيدا بقواعد الجمال؟".
&وبعد ما يقارب &قرن من الزمان يعود السؤال ويطرح ذاته مرة أخرى عام 1947 من قبل تشارلي تشابلن في فيلمه:" مسيو فيردو".
هاربون. لم يكونوا سوى هاربين من أنفسهم ومن صورة محدّدة للذات المستبدّة. الجريمة الأولى هي أنّ الديكتاتور القديم كان يسكن دوما في تفاصيل ضحاياه قبيل هروبهم وبعده.&
لا يمكن لأحد أن يحكي الحكاية كلّها ومن أولّها في غياب الشهود وفي انعدام أدلّة الجريمة التي ضاعت في الزحام وفي إختناق الحقيقة في الهواء الفاسد.
هاربون، مهزومون داخليا قبيل أية معركة. في أية معارك انتصرنا؟. تاريخ الهزائم لا يعترف بالشعارات. ولا بالأناشيد والقصائد المستهلكة. التاريخ بلا عواطف. وهو لا يرحم. يكتبه ويزوّره الأغبياء الواثقون من أنفسهم وما على الأذكياء الشاكّين في أنفسهم الاّ أن يضحّوا دائما من أجل تصحيحه. الرهان هو أن لا تكون المعركة خاسرة الى الأبد. هل ثمّة أنبياء في أُمّة إختتمت النبوة؟.
الهاربون الضاحكون النرجسيون في مناصبهم العليا، والهاربون المنزويون في زوايا النسيان، تجمعهم عنوان هزيمة مشتركة.
&الهروب من الذات. ومن عقدها وتناقضاتها الكثيرة. الضحك والبكاء والأخيار والأشرار. الكوميديا والتراجيديا وأقنعة المسرح التقليدية. تلتقي كلّها ولأول مرّة متقابلة معا وجها لوجه على خشبة واحدة اسمها: العراق. من هنا سوف تتكرّر وتبدأ الخطيئة الأولى من جديد. جريمة قتل الأب. الوطن اليتيم. إحياء الطوطم كمنقذ ومخلص. حذار ..حذار..فإنّ قتل الأب هو أكبر جريمة في التاريخ.
هكذا كان الديكتاتور يلاحقهم في الأحلام وفي الكوابيس. في الرغبة وفي التمنّع. في الصورة وفي اطارها. في الثقافة المنّحطة وفي غضّ البصر عن الخطايا القاتلة فيها بحجة التعبئة والتجييش. الحشود أصبحت لها أسماء شعبية وغير شعبية. المافيات كذلك. وظلّ المنبر أقوى من البرلمان. جذرهما واحد. الطاغية تناسخ فينا والطغيان صار له رايات وبيارق متعدّدة. جريمة قتل المخلّص. جريمة قتل المنتظر. المهدي الذي جاء على هيئة المفاهيم الدستورية الحديثة. وإعادة بناء الدولة. جريمة القتل تمّت مرتين. هذه المرّة &في إغتيال الديمقراطية في مهدها. كم سيكون هذا المفهوم مقيتا في المستقبل؟. وكم ستكون الديمقراطية هي رديفة للفوضى والفساد ونهب المال العامّ؟.
الجريمة الأكبر كانت في تصادم العاطفة مع الحقيقة عام 2003. العاطفة كانت ولم تزل العدوّة الأولى للحقيقة. الحرمان من الماضي واغتيال الذاكرة التاريخية لم تكونوا تعنيان كما تعنيان اليوم سوى إنزال أقسى أنواع القصاص.
بشر وأحلام وإرادات محاصرة بالموت وبالجنون من كلّ الأبعاد. الساسة ومحازبيهم هم الفرقة الناجية. أمّا الماضي والذكريات فسوف تبقى بعيدة ومبتورة تردّدها الجاليات المهاجرة غناء ومأثورات كالأساطير القديمة التي لن يصدّقها أحد في المستقبل.
لقد فتحوا جميع الطرق المؤدية للموت والجنون لهؤلاء الفقراء الذين انتظروا. يا آلهي كم هؤلاء الفقراء انتظروا؟.
&
باريس
&
التعليقات