من مفكرة سفير عربي باليابان

ناقشنا في المقال السابق عزيزي القارئ، مشكلة خلط الفهم بين الدين والعنف، الذي يعيشه العالم اليوم، حيث يعتقد البعض بأن أساس فهم الدين هو ربطه بمفهوم الخالق (جل شأنه)، وهذا المفهوم نفسه يجعل المؤمنين به، يتعصبون للتطرف بالاعتقاد، بأنهم هم من يعرف الحقيقية، ويملكون حقها، وأما من يخالفهم في الرأي فهم كفرة، لذلك ليس هناك مجال للوسطية، أو حلول فوز الطرفين. بل يربط البعض كل العنف والحروب في التاريخ البشري بالاديان، مع أنه من المعروف بأن أسوء الحروب في تاريخ& البشرية، هي الحربين العالمية الأولي والثانية والحرب الباردة، مع انها لم تكن حروب دينية. وقد تكون المشكلة الأعظم في عقلنا العربي الخلط بين الميثولوجيا، والدين، والعلم، والذي قد يؤدي عادة لتكفير بعضنا البعض.
&ولمحاولة مناقشة هذا الخلط أرجو أن يسمح لي القارئ العزيز أن نتصفح كتاب، بعنوان، تاريخ الميثولوجيا، كتبته المؤرخة البريطانية المتخصصة في الأديان، كارن ارمسترونج. وتعتبر هذه السيدة من خيرة مفكري الغرب، التي درست جميع الأديان، وكتبت عنها بدقة ونزاهة متناهية. ولنتذكر بأنه تفترض بعض النظريات العلمية الحديثة، بأن تاريخ الكرة الأرضية يرجع لحوالي 13.8 مليار سنة، والتي تشكلت بعد أن انفجرت البيضة الكونية، حسب "نظرية الانفجار الكبير"، مما أدى لتكون الكون الذي نعرفه اليوم. فبعد أن بردت سحابة هذا الانفجار، وبفضل جاذبية الكون، تكونت جزيئات صغيرة تسمى بالكواك والبوزونات، والتي كانت المكونات الأولية لتكون الذرة. وبعد ذلك بفترة تشكلت الذرة بجزيئاتها المختلفة، من البروتونات والنيوترونات المركزية، وبما تدور من حولها من الكترونات سالبة. وتفترض هذه النظرية أيضا بأن السحابة الهائلة أدت لتحول هذه الجزيئات بفضل الجاذبية إلى نجوم وكواكب. كما تكون اول عنصر في الكون بعد الانفجار الكبير، بتشكل ذرة الهيدروجين، والمكونة من بروتون والكترون وحيدين، وكانت البدء في تكون ذرات "العناصر" الطبيعية المتعددة على سطح الكرة الأرضية.
ويفترض العلماء بأنه بدأ في مرحلة ما من التاريخ، انفصال المحيطات عن الاراضي على سطح الكرة الأرضية، ولتبدأ ما قبل الخمسة مليارات سنة لتطور الكائنات الحية من نباتات، وأشجار، ولتليها بدأ تشكل المخلوقات الحية المختلفة. كما يعتقد العلماء بأن الكائنات الحية مرت بمراحل تطور مختلفة، كما مر الجنس البشري على مراحل تقدم في جسمه وعقله. ولنتذكر أيضا بأنه قد أعتقد الباحثون بأن ما يشكل عقل وجسم وشخصية الإنسان، هي العوامل الوراثية التي يرثها من والديه، من ما تسمى بالمورثات والجينات، ولكن بينت أبحاث "الأبي جنتكس" العلمية الحديثة، بأن الظروف التي تحيط بالإنسان لها دور كبير أيضا في تغير وظائف المورثات والجينات البشرية.
كما تبين الأبحاث العلمية بأن كل منا يملك ثلاثة عقول، ففي عمق المخ البشري لدينا العقل القديم، الذي يفترض العلماء بأننا ورثناه من الزواحف قبل حوالي 500 مليون سنة، ويرتبط هذا العقل البشري القديم بغريزة حبنا كبشر في البقاء، حيث نحتاج للأكل والشرب لصحة أجسامنا، كما نحتاج للجنس لاستمرارية التكاثر، وللقوة العضلية للدفاع عن النفس، والتعامل مع نزاعات الحروب. وورثنا بعد ذلك عقلنا الثاني من الثدييات، قبل حوالي 120 مليون سنة، بتطور ما سمي بالعقل "اللمبي"، والذي طور سلوكيات الشفقة والرحمة في عقلنا البشري، كحماية الصغار، وتناغم العمل مع الاخرين، لتحقيق حب البقاء، ولتبدأ بذلك مرحلة جديدة في رعاية الإنسان لأفراد مجتمعه، ولتتطور غريزة التعاطف، والتراحم، والتالف، مع الاخرين. ومع الوقت تطور العقل الثالث في الجنس البشري، فقبل حوالي عشرين الف سنة، وفي فترة العصر الحجري القديم، تطور العقل البشري بصفاته الجديدة، أي بعقل المنطق والتفكير، لننتقل من عقل الرغبة والعواطف، نحو عقل المنطق، والمسببات، والتفكير العميق، والحكمة. فليتحول الانسان مع الوقت لما هو اليوم إنسان بثلاثة عقول، عقل غريزة حب البقاء، وعقل المودة والتعاطف والتناغم، وعقل التفكير والمنطق.
وعلينا أن نتذكر أيضا بأن العقل البشري تكتمل كومبيوتراته العصبية، أي خلاياه العصبية، مع نهاية الشهر التاسع من الحمل، ليصل عدد هذه الكومبيوترات لمئات المليارات. بينما يتم التواصل بين هذه الكومبيوترات العصبية لتناسق عملها مع بعضها البعض، ومع باقي أعضاء الجسم، بما يسمى بالأسلاك أو الألياف العصبية، بعد الولادة، وتعد هذه الأسلاك العصبية بمئات الترليونات مع البلوغ.& فكل خبرة، حسنة أو سيئة، يكتسبها الطفل بعد ولادته، وطوال حياته، مسئولة عن تشكيل عقلة المستقبلي نحو الخير والإنتاجية والإبداع، او بالعكس، نحو الشر والتطرف والعنف والقتل والدمار.
وتبين كتب التاريخ بأن الانسان كان في العصر الحجري القديم ماهر في القتل، فيقتل الحيوانات بالصيد، ليضمن غذائه، ويحافظ على بقائه. ولكن مع الوقت مع تطور العقل "اللمبي" صعبت غريزة الشفقة والتعاطف هذه المهمة، لذلك ادخل الإنسان في طقوس التطهير والأضحية، ولتترافق هذه الطقوس بأحاديث وأساطير مختلفة. كما تغيرت حياة الانسان مع انتقاله من عصر الصيد إلى عصر الزراعة، فقد كان الإنسان يزرع لكي يوفر غذائه، ولكن حينما تطورت الوسائل الزراعية، وزادت المحاصيل عن حاجته، تحول الفائض لرأسمال يتاجر به، ويستغله ويحتكره لزيادة ربحيته، ورفع موقعه في المجتمع. ومع بداء التطور الزراعي، قبل حوالي العشرة آلاف سنة، بدأت النزعات على الاراضي، ووضعت الضرائب على محاصيل الفلاحين، ليؤدي ذلك لظهور طبقية المجتمع البشري.
فلقد كانت المجتمعات ما قبل العصر& الحجري مجتمعات متساوية، لأن الصيادين لم يستطيعوا توفير دعم لمن لم يشاركهم في صعوبة حياة صيد الحيوانات، كما لم تكن لديهم زيادة في جمع موارد الغذاء، لكي تتحول لرأسمال، يستغل& ويحتكر ضد الاخرين. فلم تستطع القبائل البقاء ان لم تتشارك معا في عملية الصيد، ونتائجه، لذلك لم يكن في ذلك الوقت من الممكن خلق السلطة والدولة، لان الجميع كان لديهم نفس ادوات ومهارات الصيد. فكان المجتمع مجتمعا لا طبقيا، وكان البشر يقدرون مهاراتهم في الكرم والشفقة والعطف، والذي كان يفيد المجتمع ككل. ولكن حينما بدأت المجتمعات الزراعية تنتج& اكثر من ما تحتاج إليه، تمكنت فئات صغيرة استغلال الفائض لتثري، وتستغل السلطة، وتحتكر العنف، للسيطرة على باقي المواطنين. وقد كان ذلك واضحا قديما في المجتمعات الزراعية في امبراطوريات الشرق الاوسط، والصين، والهند، واوروبا، التي اعتمدت على الزراعة، لتسرق القلة من النخبة المجموعات التي زرعت، لتحتكر السلطة، لتدعم حياتها الارستقراطية، بل أيضا لتلعب دورها في تطور التجارة والعلوم والصناعة. وليبدأ تدريجيا تطور مفاهيم الممالك والحكومات والقوانين والضرائب. وفي هذه الفترة بدأت تتطور مفاهيم الميثولوجيا والأديان، فقد تسائل الإنسان منذ البدء عن ماهية نزول الأمطار لتروي الزراعة، كما تحير حينما ارتفعت حرارة الشمس وزاد الجفاف، وتخوف حينما انتشرت الطوفانات والزلازل.
ويناقش كتاب، تاريخ الميثولوجيا، بأن الإنسان منذ أن وجد على سطح الكرة الأرضية أكتشف بأن هناك قوة سماوية تسيطر على الكثير من أموره الحياتية. فقد لاحظ كيف أن نزول المطر من السماء يوفر له المحاصيل الزراعية، بينما حرارة الشمس تسبب الجفاف والجوع. ولذلك بدأت تتطور الأساطير عن القوى التي ما فوق الأرض وفي عمق السموات، كما أخذت مفاهيم الميثولوجيا تتطور في التاريخ البشري، لتتقدم تدريجيا نحو مرحلة جديدة من الاديان. وتحلل الكاتبة كيفية نشأة الأساطير في التاريخ البشري وارتباطها بأحلام الإنسان لتحقيق المستقبل، و توضح بشكل جميل بأنه ومنذ بداء التاريخ، كان الإنسان ملهما بخلق الأسطورة، فمن خلالها يرضي غرائزه ويحقق أحلامه.
وقد واكب تصنيف التاريخ البشري في خلق الميثيولوجيا ثلاثة مراحل. تمثلت المرحلة الأولى بتداول الأساطير لأسرار الكون وأحلام الإنسان. ومع تقدم الحضارة البشرية العمرانية دخلت مرحلة العقائد الدينية. ومع تطور المجتمع المدني، وبداء الاكتشافات العلمية، دخل الإنسان مرحلة العلوم المادية والتخيلات العلمية. وقد عرف الإنسان منذ العصور القديمة بأن حياة الدنيا ليست إلا بداية لحياة أخرى وقد أكد رجال الآثار هذه الحقيقة، بكشف ما تحوي قبور الأقدمين من كنوز جمعوها في قبورهم لأخذها لحياة الآخرة. ويعتقد الذهن البشري بأن هناك الكثير من الأشياء التي لا يستطيع المخ المادي أن يفسرها، ويقتنع ماديا بوجودها. لذلك تطور التخيل في العقل البشري، وبرزت الميثولوجيا، وتطورت مفاهيم الأديان المختلفة. وتعتبر ميثولوجيا الأساطير في عالمنا المادي اليوم خرافات غير معقولة، مع أن مخيلة الأساطير هي التي مكنت الإنسان أن يحلم في المستقبل، ويكتشف علوم جديدة، ويبدع باختراعات حديثة. فمخيلة العلماء هي التي حملتنا إلى عالم الفضاء الخارجي، فمشينا على القمر، وزرعنا المريخ، وسحبنا الطاقة الكهربائية من على سطح الشمس.
فتلاحظ عزيزي القارئ بأن هناك تناغم، وتالف، وتناسق جميل، بين الميثولوجيا، والعلم، والدين، لأن المثيولوجيا توسع مدارك الذهن البشري، وتحلقه في أحلام مستقبلية عجيبة، وتساعد الإنسان لأن يعيش الواقع الحياتي بأعماقه، ويحلم بتغيره وتطويره، بينما تساعد العلوم على فهم حقائق الحياة، والعمل على تطوير وسائل تكنولوجية للاستفادة منها، في الوقت الذي يعطي الدين معنى لحياتنا، بالتعمق بروحانية لمعرفة كيف خلقنا في هذه الحياة، وما سبب وجودنا، وإلى أين نحن ذاهبون بعدها.& ولنا لقاء.

د.خليل حسن، سفير مملكة البحرين باليابان