حين سقوط صدام انشغل المثقف العربي بتحديد موقفه الرافض للاحتلال الامريكي، وحين نسأل اين هي مواقفكم من دكتاتور يذبح شعبه وبات ذريعة بسبب حماقاته للتدخل الامريكي؟ يسهل تخيل الجواب: "نرفض الدكتاتور لكن المهمة الان تكمن في اتخاذ المواقف من التدخل الامريكي، لأنه احتلال لبلد عربي". كثير من المثقفين العرب تحدثوا عن رفضهم للاستبداد العراقي وانهم ضده.

هذا كذب، المثقف العربي طيلة سنوات ذبح صدام لشعب العراق وارتكابه لحماقاته صامت، الا استثناءات هي في الغالب اسماء معروفة بيساريتها. بل ان الكثير من الامثلة بقيت تدور في فلك نظام البعث لاسباب متعددة؛ مصالح خاصة وانتماءات وشعارات وهوية... العقل الثقافي العربي جزء من بيئة عامة، ترى دعم الاستقلال والتصدي للاعداء اولوية قصوى تبيح استخدام القسوة، او على الاقل تجعل من ادانتها امرا ثانويا.

الوضع العراقي الراهن، في ظل الصراع الطائفي وقيام خلافة داعش، يستعيد ذات المأزق، هذه المرة ليس مع دكتاتور، انما خرابات خارج المعهود. الجدل هنا، كيف نتصرف، وما هو موقف المثقف؟

المثقف العربي انطلق سابقا من قوميته كأولوية، وهذه المرة يتحرك مثقفون عراقيون من مذهبيتهم، ليقدموا مقاربات هي في جوهرها رؤية طائفية لها الاولوية... نختلف مجددا حول الاولويات؛ اخراج داعش أم طريقة اخراجها، هذا ظاهر الاختلاف. أما جوهره فيدور حول من هو الأكثر خطراً على المحافظات السنية في العراق، الحشد الشعبي ام داعش؟. لنبدأ مشوار الجدل الطويل، من اسوأ ممن؟.

مثقفون سنة يبنون اراءهم على أن الحشد الشعبي (الشيعي) اكثر خطراً، لأنه يمثل الاخر المختلف، يمثل الشيعة في المعركة. هو تهديد وجودي، حقيقياً كان ام متخيلاً، للسنة... وداعش رغم أنها تهديد لحياة الكثيرين، وللتراث، الا أنها لا تحمل نوايا تهديد وجودي للسنة، حتى وان كانت تهدد العراق وجوديا. هي في نهاية المطاف تنتمي في "الاصول" لذات ما ينتمي اليه السني. المنطق نفسه؛ المسلم "الظالم" خير من "الكافر"، الطاغية المحلي مهما كان مجرماً يبقى خيرا من أي احتلال. المقارنة تجري بمعزل عن تحديد الاضرار وطبيعتها، انما هو موقف مبدئي يُتخذ، ثم تساق حوله الادلة والبراهين. وعندما يعلن شيخ الازهر من مقره في القاهرة، ان هناك حرب ابادة تشن على السنة، سيُستخدم دليل، بينما كلام الشيخ اعتمد على ما نقل من كلام، ولم يتعب نفسه ليطلع على الامور. ما يقوله المثقف يركز النظر على الخوف من المغاير المذهبي فقط وفقط. فكما هو المثقف العربي، لا يمتلك المثقف السني حلولا سريعة تعالج الكارثة، انما يقدم مقاربات نظرية يصلح بعضها لرؤية واسعة، لو طبقت لكان العراق بخير فعلا، لكنها لم تعتمد. وستصلح ايضا رؤية مستمرة ومطلبا اساسيا في المستقبل. الا أن التذرع بعدم تحققها لا يمكن أن يكون سببا لعدم مواجهة داعش الملحة بفعل ما تعنيه من تهديد لكل شيء في هذا البلد، ومنه المزيد من الاراضي والحياة، والتفافها على المزيد من الشبان وابادتها من يعارضها او لا يتوافق معها، او من لها معه ثار قديم.

ويقدم مثقفون شيعة منهجية متشابهة لكن بأولوية مختلفة، الحرب ضد داعش دون أي جدل ونقد، لنتخلص من التنظيم الارهابي، ذي التهديد الوجودي، وبعد ذلك نتحاور. متناسين الحساسية التي يمكن أن يتسبب بها دخول الحشد الشعبي مدنا سنية بعد تحريرها من يد داعش، وما يعنيه هذا في ظل المخاوف المذهبية. خصوصا وان هذا يحصل بوجود قيادة ايرانية لا تخفي وجودها على الارض. في ظل هذا، أي كلام مخالف سيوصف بأنه تثبيط للهمم. وأمام هؤلاء المثقفين المحاطين بجمهور من المندفعين والخائفين والغاضبين، يصعب أن يعلن المثقف النقدي عن تحفظه تجاه تفصيلات متعلقة بالموضوع الجوهري. وإن وجّه نقدا فعليه أن يكون بمنتهى الحذر، وان يسرد مقدمة حول مواقفه الرافضة لداعش ودفاعه عمن يقاتلها، ثم يقدم تصوره النقدي بشيء من الالتباس. وعندما تحدث يونسي مستشار الرئيس الايراني بتصريحه حول العراق والعلاقات الحضارية والسياسية به، اندفع بعض مثقفي الشيعة لتأويل التصريح او الدفاع عنه بأن من ترجمه حرّفه. فعل ايديولوجي، يحرف أي وضع لا ينسجم مع المسار، خوفا من الإضرار به.

يرجح أيضا أن نجد الكثير من المثقفين الكرد على هذه المنهجية، عين المصلحة الكردية بمعزل عن أي شيء آخر، وهكذا كل الاخرين في بلد مثقفه معني بالدفاع عن الجماعة حصرا. انه مثقف الايديولوجيا الجديدة. باختصار هو صراع على تكريس الشرعية الثقافية للاولوية الطائفية، وليس تحديد الاسباب الموجبة للمواقف وتحريرها واعادة انتاجها. ان مهمة المثقف، في هذه الحال، تبطل، وتسقط في وحل عين الجماعة. وحتى يبرر المثقف العلماني موقفه، فإنه يعتمد على مشروع تحويل الطائفة الدينية الى اثنية قومية.

المعركة بين هؤلاء المثقفين طائفية، معركة الانتصار للمذهب او القومية. ربما تبدو أحيانا اكثر انسانية ومعرفية عند طرف، لأن الحدث كذلك، فيكون موقفه سهلا ودليله اقوى وكفاءته بالاقناع اكثر. ففي الحرب مع داعش يمكن القول إن المساحة التي يمتلكها المثقف الطائفي "الشيعي" اكثر سعة بعد كل ما فعله التنظيم الارهابي من جرائم وتخريب فاق كل ما نعرفه من اشكال العنف وبث الرعب. الحدث هنا جعل المواقف اكثر سهولة، ليس لأنها اكثر معرفية، انما الحالة باتت أسهل. المثقف الطائفي "السني" يصبح فاقدا للمنطق، لأنه طوباوي، لا يمتلك الحلول. القدرة على الاقناع والعجز عنه رهن بالحدث والحالة، وليس بما يمتلك من رؤية متحررة. والتحرر لا يعني عدم الانتماء للجماعة، بل ان لا توظف الثقافة والافكار لخدمة هذا الانتماء حصرا، بعيدا عن الأسس الاخرى المفترض وجودها لدى المثقف النقدي، والتي يقلّ وجودها لدى المثقف الطائفي "الايديولوجي الجديد".

هذان، مثقفا الطائفية، وريثا ادوارد سعيد، المفكر الذي بقي مشغولا بتأسيس كل افكاره على قاعدة الانتماء الفلسطيني والعربي، ليذيب كل شيء مغاير داخل هذا الانتماء، ويهمل الاولويات الاخرى الملحة لوجود أولوية واحدة... والمتغير العراقي ان الانتماء لم يعد عروبيا او مضادا للـ"الامبريالية"، انما هو سني، هو شيعي، هو كردي، هو الهوية المحلية الضيقة المؤسس لها بعين "أممية".

&