لا يمكن اعتبار الجنرال ديفيد بتريوس شخصا عاديا، بأي مقياس من المقاييس، على الرغم من أنّه أدخل نفسه في متاهات ذات طابع نسائي كان، بالطبع، في غنى عنها. كلّفت المتاهات أحد ابرز الضباط الأميركيين في السنوات العشرين الأخيرة، خسارته موقع مدير وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إي).
منذ لمع نجم الجنرال نورمان شوارزكوف الذي قاد التحالف الدولي في عملية تحرير الكويت في العام ١٩٩١، لم يظهر ضابط أميركي آخر في مستوى ديفيد بتريوس الذي يمتلك في الوقت ذاته وعيا سياسيا ومعرفة بالشرق الأوسط قلّ مثيلهما. إنّه يحمل إضافة إلى ذلك شهادة دكتوراه في العلاقات الدولية، حصل عليها بإمتياز، من جامعة برنستون، إحدى أرقى الجامعات في الولايات المتحدة.
جاء إنتهاء دور بتريوس في وقت تبدو إدارة باراك اوباما في حاجة أكثر من أي وقت إلى مسؤول يمتلك معرفة، ولو قليلة، في ايران والعراق والمنطقة. يمتلك معرفة ببعض البديهيات لا أكثر.
عاد بتريوس إلى الواجهة أخيرا عبر الحديث الذي ادلى به، القائد السابق للقوات الأميركية في العراق، إلى صحيفة "واشنطن بوست". كان الحديث ذا طابع مختلف بالفعل. كشف قبل كلّ شيء أنّ كلّ كلام عن عدم وجود خبراء أميركيين في الشأن الشرق أوسطي ليس صحيحا.هناك شخصيات أميركية لا تزال تعرف تماما ما يدور في المنطقة وما هو على المحكّ فيها. تعرف هذه الشخصيات، من بينها بتريوس، أنّ هناك رغبة لدى ادارة أوباما في الظهور في مظهر العاجز أمام السياسة الإيرانية على وجه التحديد.
كانت كلّ كلمة في الحديث مدروسة بدقة. فالحديث عبارة عن أجوبة خطية على خمسة أسئلة وجّهتها الصحيفة إلى بتريوس في اثناء وجوده في كردستان العراق لحضور ندوة موسعة تستضيفها، سنويا، الجامعة الأميركية في السليمانية لتي يرأسها سياسي عراقي كردي مميّز بالفعل هو الدكتور برهم صالح.
ما لفت الإعلام العربي في الحديث كان تركيز المدير السابق لـ"السي. آي. إي" على خطر الميليشيات الإيرانية العاملة في العراق واعتباره هذا "التهديد" الذي تشكلّه الميليشيات الشيعية "أكبر بكثير" من ذلك الذي يشكّله "داعش".
هذا دليل على أن بتريوس يعرف في العمق الموضوع الذي يتحدث عنه، خصوصا أنّه يدرك أن "داعش" ظاهرة عابرة لا يمكن للتحالف الدولي إلّا أن ينتصر عليها. يدرك أيضا أن الميليشيات المذهبية المحلية العاملة في العراق، أو تلك التي تدور في فلك ايران وتلك التابعة لها مباشرة، تعمل على احتلال الأراضي التي تنسحب منها "داعش" وتستهدف أهل السنّة العرب في العراق.
كذلك، لفت الإعلام العربي طريقة تعاطي بتريوس مع وجود قاسم سليماني قائد لواء القدس في "الحرس الثوري" الإيراني في العراق والصور التي تنشر والتي يظهر فيها سليماني. قال مدير الـ"سي. آي. إي" أنّه لا يريد أن يقول عن صور الضابط الإيراني كلاما لا يليق بصحيفة مثل "واشنطن بوست" تدخل منازل فيها عائلات.
كذلك، استخفّ بتريوس بشبه تهديد وجّهه إليه سليماني عندما كان في العراق. وقتذاك نقل إليه ضابط عراقي رسالة من الجنرال في "الحرس الثوري" يصف فيها نفسه بأنّه "المسؤول الإيراني عن العراق وسوريا ولبنان وغزّة وافغانستان"، كان ردّ بتريوس عبر الوسيط الذي نقل الرسالة ما معناه أن كلام سليماني لا ينطلي عليّ وأنّ عليه ألإنصراف إلى الإهتمام بشؤونه، أي "إذهب إلى الجحيم".
يبدو بتريوس من خلال نص الحديث أنّه ما زال يحتفظ بذهن صاف على الرغم من كلّ ما مرّ عليه من صعوبات ومن احتمال مثوله أمام المحكمة في قضية مرتبطة باتهامه بكشف ملفات، يُفترض أن تكون سرّية، أمام امرأة مكلّفة كتابة مذكراته.
يظهر الصفاء الذهني للرجل عندما يتحدّث عن شؤون المنطقة ككل، خصوصا عن "اشعاعات تشرنوبيل السوري". بالنسبة إليه، ما يجري في سوريا حدث في غاية الأهمّية على الصعيد الإقليمي، خلافا لما تعتقده الإدارة الأميركية. لا تجوز مقارنة الحدث السوري سوى بخطورة حادث المفاعل النووي السوفياتي في تشرنوبيل في العام ١٩٨٦. ساهم الحادث في انهيار الإتحاد السوفياتي وكان من أولى المؤشرات إلى هذا الإنهيار الذي طاول أوروبا الشرقية. لذلك، يبدي بتريوس تخوّفه من تأثير "انتشار إشعاعات تشرنوبيل السوري" على المنطقة كلّها.
لعلّ بين أهم ما في الحديث امران. الأوّل التركيز على الرابط بين سوريا والعراق. لا يمكن ترك الموضوع السوري إلى مرحلة لاحقة في حال كان مطلوبا إيجاد استقرار في المنطقة. الأمر الآخر هو التشديد على "تأثر المصالح الأميركية" بما يدور في كلّ دولة من دول الشرق الأوسط.
هناك فوق ذلك كلّه كلام عميق صدر عن بتريوس من نوع أنّ الإنسحاب الأميركي من العراق ولّد انطباعا لدى حلفائنا بأننا ننسحب من الشرق الأوسط، وقد أثّر ذلك في قدرتنا على التأثير في الأحداث.
ليست لدى المدير السابق لـ"السي. آي . إي"& أي اوهام في شأن ايران التي هي "جزء من المشكلة (في الشرق الأوسط) بدل أن تكون جزءا من الحل". الأهم من ذلك، تأكيده أنّ الولايات المتحدة ليست بالضعف الذي& يعتقده كثيرون، كما ليس صحيحا الإنطباع بأنها في حال تراجع أمام ايران و"داعش". تضمّن الحديث دعوة مباشرة إلى التخلّص من هذا الإنطباع الخاطئ الذي يقول& أنّ لإيران و"داعش" قامة كبيرة لا علاقة لها بقامتهما الحقيقية.
هناك ملاحظات في غاية الدقة في الحديث. من بينها أنّ "تصرفات ايران وراء صعود التطرّف السنّي" و"خلق أرضية خصبة نمت فيها داعش". كذلك، لديه وصف حقيقي وموضوعي إلى حدّ كبير لممارسات حكومة نوري المالكي في العراق. يشير هنا إلى "الفساد والتسلط والتصرّفات ذات الطابع المذهبي" التي ادت إلى "المأساة" العراقية.
ما زال بتريوس يؤمن بأن العراق يستطيع استعادة وحدته. ما زال يؤمن بأن& طبيعة الشعب العراقي ليست طائفية أو مذهبية وأن حكومة المالكي خرّبت كلّ شيء في العراق، في وقت كانت ادارة اوباما على عجل في الإنسحاب عسكريا...
هل فات أوان إنقاذ العراق؟ هل فات أوان إنقاذ الشرق الأوسط؟ ما لم يقله بتريوس أن الإدارة الأميركية أسيرة الملف النووي الإيراني لا أكثر ولا أقلّ. ما لم يقله أيضا أن العرب كانوا على حقّ عندما اتخذوا باكرا قرارا بدعم مصر بغض النظر عن كلّ ما تفكّر فيه إدارة أوباما المستعدة للإستسلام للإخوان المسلمين.
شكرا لديفيد بتريوس على حديثه الذي وضّح فيه ما لم يكن في حاجة إلى توضيح، خصوصا في ما يخصّ تخلي الولايات المتحدة عن دورها في الشرق الأوسط لمصلحة ايران...