كل الجرائم تتهم بها داعش. المدن والقرى الخارجة عن سلطة بغداد منذ سقوط الموصل، نعرف أنها تحت سلطة الدولة الاسلامية... وبالذهاب أبعد نتحدث عن أن لداعش خلفيات بعثية، وهذا ما تؤكده تقارير ومعلومات صحفية عراقية وعالمية.

لكن وجود داعش هو نهاية الحكاية، ولهذه النهاية ممهدون، تورطوا أو تعمدوا. وقوف البعث في الخلف لا يكفي جوابا حول عشرات المقاتلين الموجودين على الارض ممن كان في عمر صغير خلال فترة النظام السابق، وهم لم يكونوا ضمن داعش أو القاعدة سابقا..

هناك مؤشرات تصنع شكوكاً حول وجود تنظيم الدولة بصيغته العالمية المعهودة، خارج حدود الموصل. وأهم هذه المؤشرات تكمن في الاختلافات بين سقوط الموصل وما حصل في المناطق الاخرى، بدءا بكركوك وصلاح الدين وانتهاء بالفلوجة وجرف الصخر. ان هذه المناطق لم تشهد، حين انهارت القوات العراقية، تقدماً كبيراً من الخارج، انما خرجت من السيطرة في حزيران 2014، وأصبحت تدار من قبل قوى موجودة على الارض، ولم تأت من الخارج، عدا الفلوجة التي كانت بعيدة عن نفوذ الجيش العراقي قبل سقوط الموصل.

بالتأكيد في هذه المناطق حضور لداعش بنسخته العالمية، هو حضور قادم من خارج المدن. وأن تنظيمات الدولة الاسلامية بكافة أشكالها مرتبطة بشبكة متداخلة. فالانتحاريون سمة القاعدة ونسلها، وهم غير عراقيين في أغلب الأحيان. لكن نظرة اوسع تدلنا على وجود آخر، مؤثر ومرتبط بالمكان. الجزء الرئيسي من هذا، عناصر القاعدة وداعش الذين اصطلح على تسميتهم بالخلايا النائمة، وجزء آخر بقايا الجماعات المسلحة بدءا بجيش المجاهدين والنقشبندية وانتهاء بالمجالس الثورية التي أصدرت أول بيان لها في تاريخ 15/1/2014 ثم تتالت البيانات معلنة تشكيل فروع& لها عبر بيانات مسجلة على اليوتيوب، وموزعة على مناطق متعددة في العراق، وتتمركز بدرجة رئيسية في القرى والاقضية والمدن التي خرجت لاحقا من سيطرة السلطة العراقية.

وبحسب بيانات من المجلس ان منطقة شرق الفلوجة كانت تحت سيطرتها، وانها اشتكت في تاريخ 2/5/2014 من اعتداءات قام بها عناصر من داعش. مع الوقت تلاشت المجالس، وسجل انتقال العديد من عناصرها الى داعش. وبتعبير أصح الى التشكيلات المحلية للدولة الاسلامية، هي التشكيلات التي أعلنت عن نفسها بعد سقوط الموصل. فالكثير من مناطق صلاح الدين والانبار لم تشهد عمليات من الخارج، انما انهارت داخليا وخرجت من نفوذ الجيش، ثم في غضون فترات قياسية تحولت جزءا من الخلافة باعلان البيعة.

في سبايكر مثلا، آخر اعلان للمجلس العسكري في تاريخ 19 تموز 2014، تضمن تأكيدا على انجاز الاهداف الكاملة، ثم الانسحاب منها. وفي الحويجة أعلن المجلس العسكري فور سقوط الموصل عن إطلاق عملياته للسيطرة على المدينة. في تكريت عيّن المجلس محافظا لصلاح الدين بعد يوم من انهيار الجيش العراقي. وكان آخر ظهور اعلامي للمجلس العسكري حين تحد عن الاقتراب الى بغداد ودنوه من مديات قريبة لقصف مطار بغداد.

وقبل أن يصبح المقاتلون المحليون بين خيارات الهروب أو الموت أو الاندماج بالكامل تحت امرة داعش، لعبت المجالس وجماعات مسلحة أخرى، دورا مركزيا في العديد من المحافظات، وتحديدا في مدن الفلوجة وتكريت والحويجة، في الاحداث الدموية التي شهدتها قبل ان تتحول بشكل كامل لسيطرة الخلافة الاسلامية. ولهذا ان مؤتمر عمان الذي عقد منتصف تموز من العام الماضي، ركز بدرجة رئيسية حديثه عن "ثورة عراقية" ضد حكومة المالكي، ولم يتطرق بتاتا لوضع داعش. وبقيت الجماعات المتحالفة او المتخادمة مع البغدادي تمتلك بعض النفوذ والتأثير لفترة. ونجحت، في البداية، بمنع التعرض لمناطق الاقليات الدينية في سهل نينوى او لاقليم كردستان، على اعتبار أن اهدافها لا تكمن في مواجهة الاقليم او مواجهة الاقليات. الا أنها بعد ان انهارت، ذابت او هربت أو قضي عليها، بدء الهجوم على مدن المسيحيين والايزيديين وثم تهديد اقليم كردستان.
&
ان داعش لم تقم بعمليات كبيرة للسيطرة على المدن، فالانهيار العسكري ثم التصفية السياسية والامنية التي قامت بها الجماعات المسلحة غير الداعشية، في شهري حزيران وتموز تحت شعار الثورة، صنعا فضاء مناسبا لسيطرة الأقوى. والاقوى، بالتأكيد، تنظيم الدولة الاسلامية. خصوصا وان تنظيم القاعدة ترك خلايا نائمة كبيرة في العديد من المناطق، وتحديدا في الفلوجة وتكريت. فبعد أقل من شهرين أصبح واضحا ان أي تنظيمات، تحت أي مسميات لا يمكن أن تبقى قادرة على العمل العلني، وأنها مخيّرة بين البيعة للخليفة والاندماج في الطرف الأقوى الذي رفع علم الخلافة، او الموت. في الموصل طبعا أعدم بعض مسؤولي المجلس الثوري الذين لم يوافقوا على البيعة، ومنهم القيادي البعثي البارز سيف الدين المشهداني الذي اعدم في تشرين الثاني 2014. هذا الامر لم يحصل بنفس القوة والقسوة في تكريت والفلوجة، الكثير من قيادات الجماعات المسلحة داخل صلاح الدين لم تتردد بالتعامل بشكل ايجابي مع الخلافة. اما في الفلوجة، فإن الضغط الداخلي منع اعدام سبعة من قادة المجلس العسكري، وتخيّروا حينها بين البيعة او الخروج...

لذلك يمكن القول ان المدن الخاضعة لداعش ليست كلها خاضعة للتنظيم الدولي او العالمي الذي دخل الموصل، انما خضعت لخلايا نائمة استغلت سقوط المناطق وسيطرة المجالس العسكرية وعموم الجماعات المسلحة. وهذه المدن لم تشهد تصفيات جماعية للسكان المحليين. فحتى الشرطة المحلية استستلمت بسهولة كبيرة، وتم تسليم المناطق بدون مواجهة. في حين ان المناطق التي شهدت هجوما خارجيا لداعش، عرفت عمليات قتل جماعية كثير منها ارتكب لدواع ثأرية، كما حصل قبل أشهر في العلم وفي الضلوعية وآل بونمر، ومؤخرا في آل بوفراج والصوفية.

من هنا، الى جانب ضرورة مراجعة الوضع العسكري وفساد المؤسسة السياسية المحلية والمركزية وايضا فساد المؤسسة العسكرية وقياداتها العليا التي تركت الموصل تنهار في غضون ساعات قليلة، لابد أيضا من جردة حساب واسعة النطاق لأدوار غير الداعشيين في اعطاء الفرصة لداعش. هذه المراجعة ليست مجرد محاكمة قضائية للمسؤولين، انما مراجعة مجمل الخطاب، والعودة الى مراحل اسبق، وتحديداً الى خطاب المقاومة الذي استغلته قاعدة الزرقاوي حينها. فهذه الجماعات وخطابها ومقبوليتها في بلدان اقليمية، جعلت المدن العراقية تسقط بيد داعش والترويج لذلك على أنه ثورة. وانتظر الاعلام العربي اسابيع ليكتشف او ليقتنع او ليضطر الى القول؛ إن ما حصل لم يكن ثورة.

لقد ظن الكثيرون إمكانية الاعتماد على لعبة التخادم مع تنظيم داعش، خصوصا وانها اعطت مساحة لهذا الامر في بادئ الامر. الا أن مثل هذه المنهجية عرضت المجتمع السني في العراق الى واحدة من أكبر النكبات التي تعرض لها منذ قرون. لذا ما يجب محاكمته سياسيا وثقافيا من قبل المجتمع السني ونخبه المعتدلة، هو هؤلاء الممهدين الذين استخدموا منهجية مدمرة خلال السنوات الاثني عشر الماضية.&

&