&مثل تلك النشوة المصرية بتوقيع الرئيس(الراحل) أنور السادات إتفاقية«كامب ديفيد»إبراماً للسلام مع اسرائيل،تبدو النشوة الإيرانية بإنجاز الإتفاق النووي الذي تم التوصل إليه يوم 14 يوليو 2015 بعد جلسات مضنية ومضجِّرة من التفاوض بين جنيف وفيينا وبعد تصريحات إختلط فيها حابل المماطلات بنابل التمنيات وبينهما موجات من الغطرسة الأميركية رداً على التهديدات والإستهانات من جانب رموز خامنئية ثورية بعضها من الحرس وبعضها الآخر من الجيش،فضلاً عن تنظيرات من جانب الأكثر تشدداً في صفوف المؤسسة الدينية والبرلمان.
& نشوة المصريين لم تدم طويلاً وحدثت بعدما بلغ رفْض حديث الحرب والمواجهة الموسمية وما نتج عنها من متاعب درجة عدم التحمل،ولذا فإنهم عندما زار رئيسهم السادات القدس وألقى خطاباً في الكنيست ثم بعدما بدأ التناغم مع مناحيم بيغن وإستقباله في مدينة الإسماعيلية ثم أخيراً إبرام إتفاقية«كامب ديفيد»برعاية الرئيس جيمي كارتر الذي جمع الرأسين بالإغراء والوعود البراقة على وسادة إتفاقية ملغومة،إبتهجوا أغرب أنواع الإبتهاج عدا الأطياف التي رأت في الخطوة تعجُّلاً وقى الله مصر من شر تداعياته.
&&& حالة الإبتهاج تكررت في إيران لمجرد أن تم الإعلان في فيينا عن التوصل إلى إتفاق.ماذا في هذا الإتفاق ولماذا إستغرق إنجازه كل هذا الوقت وهل إن«الشيطان»الإستكباري متمثلاً بوزير الخارجية الأميركية جون كيري مُني بهزيمة أمام«الملاك»الخامنئي متمثلاً برئيس الفريق المفاوض وزير الخارجية محمد جواد ظريف؟
& هذا ليس مهماً في أنظار ملايين من شبان وشابات إيران أعربوا علناً من خلال جولات بالسيارات في الشوارع عن سرورهم بأن الغمامة النووية يمكن أن تنقشع، ولا يعود صقور الثورة الإيرانية وحدهم دون غيرهم من سائر الممسكين بمقاليد الأمور في وضْع إنقضاض كلامي ضد«الشيطان الأكبر»وتهديدات تقال دون تبصُّر في ما يمكن أن ينشأ عنها،وكأنما عيون هذا «الشيطان» وآذانه غافلة عما يقال عنه أو يُفعل بمصالحه.ونستغرب كيف أن إخواننا ثوريي إيران لم يتأملوا في الذي فعله ذات يوم جارهم اللدود الرئيس صدَّام حسين الذي أراد هو الآخر تسديد لكمة إنتقامية إلى الرئيس جورج بوش(الأب)فكان أن كلَّف أحد الفنانين التشكيليْين رسْم لوحة للرئيس بوش توضع على عتبة البوابة الداخلية ﻠ«فندق الرشيد»الذي كان يرتاده الصحافيون الأجانب والشخصيات السياسية الدولية والعربية والإسلامية بمن في ذلك مسؤولون من دول الخليج يزورون بغداد للمساندة من جهة ولإسداء النُصح إلى الرئيس صدَّام بتعديل لهجته الصخرية ضد أميركا، وأحياناً يأتي مسؤولون أعلى مرتبة بمهمات عربية_دولية ناقلين رسائل لتهدئة الموقف الذي يزداد إشتعالاً أو لدعم وجهة النظر العراقية التي طرأ عليها بعض التعديل.كما يرتاده المسؤولون العراقيون وزوار العراق كون الفندق هو الأكثر تأهيلاً وطالما سكنه وزراء الخارجية العرب الذين يأتون إلى بغداد للمشاركة في إجتماعات وزارية من بينها مؤتمر القمة.
& وبطبيعة الحال فإن الداخل إلى الفندق سيدوس الرسم المثبَّت على العتبة،كما أن مَن يغادر الفندق سيدوس هو الآخر.وهكذا فإن صورة بوش داستْها أحذية ألوف من العراقيين وسائر الجنسيات العربية والخليجية والدولية. ومن هؤلاء عشرات المراسلين الأميركان والأوروبيين.
& ماذا كانت الجدوى؟وهل تُوجب الأصول،مهما بلغ الغيظ والرغبة في الإنتقام المعنوي،وضْع صورة رئيس دولة على عتبة بوابة فندق يدوسها الداخلون والخارجون على مدار الأربع والعشرين ساعة؟ كما هل يجوز أيضاً إحراق العلم الأميركي.. وهذه وسيلة إحتجاج إقتبسها الحكم الإيراني الخامنئي من الحُكْم العراقي الصدَّامي؟
& كانت تلك سقطة في عالم السياسة وكانت نتائجها كارثية.ذلك أن الشعب الأميركي إزداد تأييداً للفعل التدميري للعراق تقوم به حكومته ليس إقتناعاً بضرورات التصرف وإنما رداً على إهانة الرئيس وإحراق العَلَم الذي هو رمز الجميع وليس الرئيس فقط.وفي تقديري إن تلك السقطة كانت من جملة الثأر الأول الذي تولاه الرئيس بوش الأب ثم أكمل إبنه بقية الثأر بأن فعل ما هو أكثر من الإنتقام من الرئيس صدَّام،ذلك أنه إنتقم من العراق كرقم صعب في المعادلة العربية والدولية وأعاده إلى ما وعد به وهو العصر الحجري..ﻔ«الداعشي»لايسر الله أمره دنيا وآخرة.
& يطول الحديث حول هذا الأمر لكن القصد من إستحضار هذه الواقعة هو أن أهل الحكم في إيران من مصلحتهم التروي بعد الإتفاق النووي خصوصاً أن ما بين الإعلان عن الإتفاق ووضْعه موضْع التنفيذ خطوات كثيرة لا بد من إنجازها. والتروي هو لقطْع الطريق على إنتقام أميركي مُرجَأ.. لكنه وارد في عقول أبناء«العم سام»من أصحاب القرار.
&& أما كيف يكون التروي،فإنه بقطْع الطريق على أي ذرائع قد يدْرجها«الشيطان الأكبر»في القائمة الطويلة التي أعدها سلفاً.وسيسحبها من الملف عندما تحين ساعة الثأر،كتلك الساعة التي نفَّذ بها البوشيان الثأر ومن دون أن يرف لهما جفون أو يحسبون حساباً لبضع مئات من الأطفال والنساء والشُّيَّاب إجتمعوا أملاً بالأمان في ملجأ كان الرئيس صدَّام الذي قص شريط السعي العربي لإمتلاك النووي كما السعي الإيراني الذي نعيش فصوله،بناه مطمئناً إلى أنه مؤهل لكي يحتمي هو وأفراد عائلته فيه وليس فقط الشعب في حال حصول هجوم.ولم يستوقف بوش الأب،لا سامحه الله،أن أرواحاً بريئة ترتعد خوفاً وهي داخل الملجأ فأمر بتوجيه أحدث بطارية صواريخ الإبادة التي لا تقتل فقط وإنما تحوِّل الأجساد إلى رماد،لترسل هذه قذيفة سقطت من خلال فوهة مدخنة وجعلت مَن في المأوى عصفاً مأكولاً.
&& في طليعة قطْع الطريق على الذرائع الكف عن ممارسة التلاعب بسوريا وهذا يكون بإستعادة«الحراس»وسائر«المجاهدين»المستورَدين،وإصدار التوجه إلى قيادة«حزب الله» بسحب العناصر التي تقترف في سوريا إثماً قد يكون مردوده ذات يوم ليس بالبعيد مثل ذلك الذي فعله البوشيان بالعراق.
& وفي بند آخر من خارطة الطريق على أساس التروي طي ورقة المغامرة الحوثية ورفْد الجموع الحوثية كما الجموع إياها في لبنان بمشاريع تختصر التخلف وتؤسس لحالة من النهوض يحل فيها التعقل محل التهيؤات التي في غياب التأهيل العلمي والتربوي والأخلاقي والصحي تستقطب كثيرين إلاَّ أنها تبقى ورقة خاسرة في أي حال.
& وفي بند ثالث الإنفتاح على الخليجيين العرب بحيث لا يبقى إحتلال الجزر الإماراتية الثلاث شوكة في الخاصرة الخليجية.وإلى ذلك تبييض صفحة النوايا والتزاور بروحية الجار الحريص على جاره،وهنا أشير إلى أنه كان مدعاة للإستهجان أن الأمير سعود الفيصل رحل وكانت، حتى إنصرافه المهيب كوزير للخارجية، الدعوة التي وجَّهها عبْر الأثير إلى نظيره الإيراني محمد جواد ظريف لم تُلبَّ مع أن الوزير المدعو زار دولاً خليجية عدة،وكأنما الأمير سعود بتوجيه الدعوة عبْر الأثير أراد مِن ذلك إشهاد الملأ على أنه وجَّه الدعوة فإذا لبَّاها الوزير ظريف خير وبركة وإذا لم تحدث التلبية فتكون مندرجة عندئذ ضمن القول المأثور:اللهم إني قد بلَّغت.اللهم فإشهد.
& وفي بند رابع نزْع ورقة المذهبية من التداول وترْك العراق يستعيد شأنه ودوره،إذ يكفي هذا الإنتقام من حرب ما كانت لتحدث لولا أن الإمام الخميني كان يريد خاتمة صعبة المنال له وهي إستملاك العتبات في العراق والمقدسات في مكة والمدينة.وهنا يجد المرء نفسه مثل حالي يرى أن مثل هذا الجنوح نحو النووي هو للثأر من وقوف السعودية ودول الخليج العربي مع صدَّام في حربه المفروضة عليه من إيران الخمينية،وليس من أجل القدس،إذا ليس بالأمر اليسير التهديد بالنووي لدولة إمتلكت النووي قبل ثلاثة عقود.وفي هذه الحال يُبرم الطرفان النوويان المسلحان بالنووي إتفاقية عدم إعتداء.
&& لو قرر أهل الحكم في إيران إجراء إستفتاء منزه عن التلاعب بالأرقام وصياغة النسبة المئوية التسعينية،أي إستفتاء موضوعي متجرد كما هو المألوف في الدول التي تحترم رأي مواطنيها(اليونان بعد سكوتلندا أحدث هذه الدول)وكان موضوع الإستفتاء:هل توافق على إعتماد التروي والتعايش مع الجيران ودول العالم على قاعدة إحترام الإنسان وإستقرار المجتمع وإزدهار الأوطان،أم مواصلة التحدي والتمسك بمشروع الخميني_الخامنئي الذي من ضمن أحلامه تصدير الثورة وصولاً إلى ما جرى التعبير عنه مؤخراً بأن حدود إيران تصل إلى آخر نقطة حدود في لبنان وعبْر كل سوريا وأول نقطة حدود في العراق وأول نقطة حدود لليمن مع السعودية وصولاً إلى سائر حدود دول مجلس التعاون الخليجي بمن في ذلك سلطنة عُمان في ما بعد رحيل السلطان قابوس لأن التعايش الواقعي بين السلطنة والنظام الثوري في إيران يفرض ترْك السلطنة خارج المشروع الإيراني الطموح إلى ما بعد رحيل السلطان؟لو حدث هذا الإستفتاء لكانت الموافقة على التروي تتخطى بكثير مواصلة التحدي.
& تلك في أي حال أهم بنود الإنفتاح بالتروي الذي يُبعد،أو على الأقل يُسقط ذرائع الإنتقام من نظام الإمام الذي إستضعف شأن نظام«العم سام» وإلى درجة أن طلاب الإمام إعتقلوا السفارة بمن فيها وأن الحديث حول«الشيطان» طوال عهود خمسة رؤساء تعاقبوا على البيت الأبيض لم يتوقف.كما لم يتم تعديل شعار«الموت لأميركا»..إلاَّ إذا كان الإتفاق النووي ورفْع العقوبات سيبدِّل الأمور من حال إلى حال، وهذا أمر معلَّق إلى ما بعد الحقبة الخامنئية.ودليلنا على ذلك قول المرشد وعلى وقْع هتافات«الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل»في خطبة العيد يوم السبت 18 يوليو(بالإجتهاد الإيراني)خلافاً ليوم الجمعة 17 يوليو كما الأصول وفق عدة الثلاثين يوماً وآخرها يوم الخميس 16 يوليو«إننا حتى بعد هذا الإتفاق لن تتغير سياستنا تجاه الولايات المتحدة المتغطرسة وإن الجمهورية الإسلامية لن تتخلى عن دعْم أصدقائها في المنطقة والشعبيْن المضطَهديْن في فلسطين واليمن والشعبيْن والحكومتيْن في سوريا والعراق والشعب المضطهد في البحرين والمقاتلين الأبرار في المقاومة في لبنان وفلسطين...».مع ملاحظة أن هؤلاء جميعاً الذين أورد المرشد خامنئي ذِكْرهم ومعهم شرائح عريضة من أطياف المجتمع الإيراني يرنون إلى حقبة جديدة من التروي على نحو ما أوردْنا جوهر بنود هذا التروي.فالجميع يريدون العيش في ظل إستقرار يقود إلى الإزدهار.بل حتى الطيف الحوثي في اليمن والطائفة الشيعية في لبنان والحكم البشَّاري في سوريا،والثلاثة أبرز ضحايا المشروع الإيراني المدعَّم نووياً،يريدون خروجاً كريماً من التجربة المريرة.
& ثمة حقول من الألغام تنتظر وضْع الإتفاق النووي موضع التنفيذ. وما نتمناه للجمهورية الإسلامية هو العبور نحو عهد من التروي عملاً بما ينصح به الإمام الواعظ البليغ الإمام علي«الطمع يؤدي إلى الندم والإستعاذة بالله تَصرف الشيطان،والغضب يأتي بالندم...».وإلى هذا الكلام البليغ حكمته البليغة«ما أكثر العِبَر وأقلَّ الإعتبار»التي نشير إليها ونحن نستحضر حالة عدم التروي من جانب الرئيس صدَّام حسين الذي سبق أن قال وفعل في حق«الشيطان الأكبر»أميركا أكثر بكثير مما يقوله المرشد.أليس هو من إفترض أن دوْس رسْم الرئيس الحادي والأربعين للولايات المتحدة جورج بوش (الأب) بألوف أحذية العرب والأجانب والخليجيين هو ورقة يهزم بها «الشيطان».لكن حدث العكس.
&