إنّ الأمة العربية ذات الثقافة الواحدة والمصير المشترك، تتصارع في داخلها الآن قوى وجماعات وكيانات، وتتهجّر من أراضيها كفاءات وعقول، وتتعمّق في المجتمع الواحد دعوات لمزيد من الانقسامات على أسس إثنية أو طائفية أو حتى مناطقية أحيانًا.
كما تتنازع في الأمة الواحدة الآن "هويات" جديدة على حساب الهوية العربية المشتركة. بعض هذه الهويات "إقليمي" أو "طائفي" وبعضها الآخر "أممي ديني". ومن المؤسف في واقع الحال العربي، أنّ التعامل مع هذه التحدّيات والهموم المشتركة لا يتم في إطار رؤية عربية مشتركة تصون الحق وتردع العدوان وتحقق المصالح العربية. وأؤكد الآن أننا على مفترق طرق: إمّا أن نرسخ قيم التعددية والتنوع أو نستمر في بناء الجدران التي تفصل الثقافات والناس وتُفاقم الطائفية وتزيد من الفرقة والانقسامات، كما تعتدي على إنسانيّتنا المشتركة.
وفي إطار لقاء فكريّ تناول بالمناقشة والتحليل المقابلة التلفزيونية التي أجرتها معي مؤخرًا قناة روسيا اليوم حول "العالم العربي اليوم. الواقع والآفاق"، تمّ التأكيد على أهمية المحافظة على الموضوعية والتجرّد في تعاملنا مع التحديات التي تواجهنا اليوم، وفي مقدمتها الإرهاب والفكر الطائفي وتقرير مصيرنا مؤسّسيًّا من خلال الحوكمة الرشيدة.
كذلك، لا بد من التمسّك بالموضوعيّة في عرضنا للحقائق التاريخيّة مع التركيز على قيَم المحبّة والسلام والاحترام، كيْ ينشأ جيلٌ يؤمن بالتعايش مع الغير واحترام قيَمه. وهو مشروع بحاجة إلى تكاتفنا جميعًا من أجل المساهمة في صوْغ فصول تاريخنا المبنيّ على الحوار والتعاون والتكامل، لا على الصراع والتصادم. وهنا تقع مسؤوليّة كبيرة على عاتق النُّخب الفكريّة وإرادتها في تشكيل معالم المستقبل. فلا بد من العمل المعرفيّ الدؤوب، والمتابعة المتبصّرة، والميْل النّقدي المسؤول، والرغبة في التغيير والتجدّد، والنظر في مصير الأمة.
لقد أصبحت أجيالنا الشابة محاصرة بالطروحات والرؤى التي لا تقدم للمواطن العربي سوى "سيناريوهات" التقسيم والتجزئة وإعادة رسم الخرائط وتفتيت الدول وإعادة تركيبها على أسس إثنية وطائفية ودينية جديدة. ومن الضروري التوقّف عن بثّ رسائل التخويف والترهيب واليأس إلى أجيالنا الشابة، والعمل على تشجيع روح المبادرة والتطلع نحو مستقبل أفضل؛ آخذين بعين الاعتبار أنّ الإنسان، بعلمه ومعرفته وقدرته على البحث والتقصي والريادة والتميز، هو الثروة الحقيقية لأي مجتمع إنساني.
ومع اختلاط الرؤية واختلال الموازين وعدم وضوح الهدف، تنامى لدى الشباب العربي الشعور بالإحباط واليأس، ما دفع بعضهم للتفكير في اتخاذ واحد من خيارين أحلاهما مرّ : الأول هو التفكير بالهجرة من الوطن العربي الذي أصبح الشباب ينظرون إليه على أنه سفينة غارقة لا محالة، والثاني هو انضمام بعضهم إلى الجماعات المتطرفة لأنها تقدم "مشروعا بديلا" لا يقوم على أسسس منطقية أو دينية صادقة، لكنه يقدّم وعودًا تخاطب مشاعر الشباب المغيّب عن الواقع وكيفية التعاطي معه بعقلانية.
هكذا حوصر شبابنا العربي بمشاعر الإحباط وغياب الأمل من كل حدب وصوب، ما ينذر بحرمان الوطن العربي من كفاءاته القادرة وطاقاته المنتجة على المدييْن المتوسط والبعيد. وسواء أكان هذا مقصودًا أم جاء نتيجة لغياب الرؤية الكلية للأحداث، فالنتيجة واحدة، وهي أن الانكباب على الحدث اليومي المباشر والخبر العاجل من دون وجود بدائل مقنعة ورؤى كلية للشباب يؤدي إلى كسر الإرادة وإفقاد الرغبة في الحياة. كما ينذر بالعواقب الوخيمة على الوطن العربي وطاقاته البشرية.
لقد مرت هذه الأمة في العقود الماضية بظروف وتحديات لا تقل جسامة عما تمر به الأمة من أحداث عظام في هذه الحقبة من تاريخها، لكنها قادرة اليوم - كما كانت قادرة بالأمس – على اجتياز الصعاب وقهر العقبات إذا ما استوثقت بالرؤية النهضوية التي وحّدت صفها وجمعت قواها واستثمرت مقدراتها للدفاع عن حقها في الوجود ولحماية كينونتها وهويتها من أخطار الطمس والإلغاء والمصادرة.
إننا بأمس الحاجة اليوم إلى تذكير الشباب العربي بالقيم النهضوية للثورة العربية الكبرى التي يحتفل أحرار العرب بذكراها المئوية العام المقبل. فبهذه القيم يستعيد العرب المبادرة ويكونوا فاعلين في تحديد مصيرهم ورسم معالم مستقبلهم.
بهذه القيم النهضوية، التي صلحت في الماضي وما تزال صالحة في الحاضر والمستقبل، نستطيع أن نمنح شبابنا الأمل وننتزعهم من براثن اليأس والإحباط. فقد استطاع العرب من خلال ثورتهم الكبرى التى انطلقت من مكة المكرمة أن يكسروا القيود ويفرضوا وجودهم ويحافظوا على هويتهم وحقهم في الحياة. وتحقق ذلك في الماضي بفضل الوحدة والتماسك ورص الصفوف وبالالتفاف حول الدور المحوري لمكة كنقطة إجماع للأمة وبتفعيل قيم الشورى والزكاة والصدقة.
إن هذه المفاهيم صالحة لكل زمان ومكان. وكما كانت سببًا في نهضة الأمة في الماضي، فإن المطلوب اليوم أن نرجع إلى هذه القيم النهضوية ونستعيد المبادرة ونعطي الشباب الأمل الذي يراد لهم أن يفقدوه. إن الاعتصام بهذه الرؤية النهضوية هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات والأخطار وتمكين الأمة من تحقيق نهضتها الجديدة المرجوة.
إننا، بمعنى أكثر تحديدا، بحاجة ماسّة إلى رؤية تنويرية جديدة تستلهم قيَم الماضي النهضوية العربية، وتعيد إحياء دور مكة كنقطة إجماع للأمة وتستلهم قيم الشورى والصدقة والزكاة، ليس فقط لمواجهة أخطار الرهاب والتطرف، ولكن من أجل التصدي بعمل مؤسّسي لأمراض الأمية والفقر والبطالة التي لا تقلّ فتكًا عن التحديات الخارجية. وضمن هذا الإطار، تكون كرامة الإنسان مكفولة وتُستبدل بالنظرة القاصرة للاجئ على أنه عبء النظرة الواقعية المنصفة إليه على أنه كفاءة وطاقة يجب أن تُستثمر في عملية البناء والنهوض للأمة بأسرها.
حان أوان استعادة المبادرة وإعادة الأمل إلى شبابنا والوقوف سدًا منيعًا أمام الأخطار المحدقة بنا. ولا يساورني شك في أن قيَم النهضة العربية تجري في عروق الكثيرين من أبناء هذه الأمة، وهؤلاء هم من يعوّل عليهم لإحداث النهضة المرتجاة. أما موتى القلوب، فلا أمل فيهم ولا جدوى من توجيه الخطاب لهم من حيث المبدأ.
&