تطرقنا بمقالات سابقة (1) لمشروع الفوضى الخلاقة في المنطقة العربية أو ما سمي بالربيع العربي وأهدافه وتطبيقاته السلمية منها أو باستخدام العنف وما أفرزه من وضع تصادمي لاحق بين القوى السياسية والشعبية المختلفة والتي سرعان ما تحول الى حالة من الفوضى والاقتتال الفكري أو الجسدي "أو كليهما" في كل بلد وطئ به.
السؤال الوجيه سياسياً: ماهي إمكانية استفادة الدول العربية التي لم يطالها هذا المشروع بشكل مباشر إلى الأن؟ وبالذات دول مجلس التعاون من ناحية محاولة تقويض اتساع وتطويق هذا المشروع بعد أن أصبح أمر واقع في محيطها العربي.
تبوأت الأحزاب السياسية التي تضفي على نفسها الطابع الإسلامي وبالأخص حزب الإخوان المسلمين الصدارة بتولي الحكم أو المساهمة به بعد أحداث ما سمي بالربيع العربي في عدة دول كـ (مصر-تونس-اليمن) إلا أنه سرعان ما فقدت تلك المكانة!
ففي تونس تقلص نفوذ حركة النهضة (المحسوبة على حزب الإخوان المسلمين والتي كانت مهيمنة على الحياة السياسية بعد سقوط حكم الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي عام 2011م ) وذلك جراء فوز حزب نداء تونس "حزب علماني" بالانتخابات البرلمانية الأخيرة وتقلد رئيسه الباجي قائد السبسي مقاليد الحكم بتونس.
ما ميز التجربة السياسية التونسية بعد أحداث ما سمي بالربيع العربي "الى الوقت الراهن" هو حالة الانسجام اللاحق لحزب حركة النهضة وجماهيرها مع الواقع المحيط بها سياسياً وتقبلها للهزيمة الانتخابية مؤخراً دون اللجوء للعنف. وهذا الأمر بلا شك يصب في صالح نجاح العملية الديمقراطية في تونس ويجنب البلد من الدخول في أتون الصراع والتفكك والتشرذم من جانب ويقلص من عزلة الحركة سياسيا من جانب أخر. إضافة الى إمكانية تلافي الأخطاء السياسية السابقة التي وقعت بها الحركة ومن ثم محاولة لحاقها بالركب السياسي مجدداً.(تفهمت حركة النهضة وبطريقة براغماتية ومتأخرة الأخطاء السياسية التي وقع بها حزب الإخوان المسلمين في مصر من حيث وجوب القبول بمشاركة الأحزاب السياسية الاخرى بمسؤولية الحكم وإن كان للحزب الحظ الأوفر بالعملية الانتخابية, وذلك لحساسية المرحلة من جانب ولضمان نجاح عملية التغيير السياسي الذي أعقب سقوط النظام السابق مباشرة من جانب أخر).
أما في اليمن فقد برز دور حزب التجمع اليمني للإصلاح (ائتلاف قبلي/ سياسي يحسب إطاره العام على حزب الإخوان المسلمين) في الإطاحة بالرئيس اليمني السابق على عبدالله صالح عام 2011 م تناغماً مع سياق أحداث ما سمي بالربيع العربي. إلا أن الحزب ومقراته وقادته تم مهاجمتهم وتشريدهم لاحقاً في مطلع عام 2014م من قبل جماعة الحوثيين (أنصار الله) (2) التي قادت الانقلاب على الشرعية اليمنية مؤخراً.
واللافت للنظر في الأزمة اليمنية الراهنة هو عدم انخراط الحزب ومقاتليه بمحاربة جماعة الحوثيين والمتحالفين معهم بشكل بارز وواضح وعلني ! وبقيت مواقف الحزب مائعة وأقرب لمحاولة التهدئة الجماعية والنأي بالنفس؟!.
(ربما تم اتخاذ هذا السلوك كتكتيك سياسي للمحافظة على مصالح الحزب الاستراتيجية حسب مقتضيات المرحلة وتقلباتها), وهو ما عرض الحزب بالتالي لانتقادات واسعة حتى من بعض مريدي حزب الإخوان المسلمين في الخارج .
في كلتا الحالتين التونسية واليمنية يمكن استيعاب ظروف الأحزاب السياسية المنضوية أو المتجذرة من حزب الإخوان المسلمين الأم وحظوظهم بالمشاركة "السلمية" بأحداث ما سمي بالربيع العربي مسبقاً وموقعهم من الترتيب في سلم المشاركة السياسية في بلدانهم لاحقاً وفق المعطيات الفعلية على أرض الواقع وقبولهم لنتائج الأمر في نهاية المطاف.
بينما الأمر مختلف في الحالة المصرية فلا زال حزب الإخوان المسلمين هناك "وجمهوره" يعتبر أن ما حصل له من عملية إقصاء جبري من الحكم (بعد أسقاط النظام المصري السابق) ووضعه بالتالي ضمن لائحة الإرهاب وحظره داخلياً وإصدار حكم الإعدام والسجن لغالب قياداته إنما هو بمثابة عملية انقلابية عسكرية محضه قام بها قادة الجيش المصري على العملية الديمقراطية في البلد مما يستدعي مجابهتها بالقوة باعتبار أن وصول الحزب ومرشحه لسدة الحكم إنما جاء بانتخابات شعبية ديمقراطية عامة. مما ولد بالتالي حالة من التصادم والاقتتال الداخلي لازالت تعاني منه مصر ونسيجها الاجتماعي ويلقي بظلاله السياسية على المنطقة ككل.
كما أسلفنا بعد تصدر الأحزاب السياسية ذات الصبغة الإسلامية المشهد العام بأحداث ما سمي بالربيع العربي ووصول بعضها الى سدة الحكم (ومحاولة الانفراد به لاحقاً) أو هيمنتها على الحياة السياسية في بعض البلدان الأخرى خلال الفترات الانتقالية التي أعقبت سقوط النظام أو رأسه.
كل ذلك أوجد حالة من التصور والريب والحذر والتوجس السياسي من قبل بعض الانظمة العربية في الدول المجاورة من القادم الجديد المسمى بالربيع العربي باعتباره انما هو خطوة عملية قد تكون مسبقة التشاور ومسنودة خارجياً لإحلال أحزاب التيار الإسلامي محلها في الحكم تحت غطاء الديمقراطية وإرادة الشعوب !(3). " كان من الأهمية بمكان دراسة الأسباب التي قادت لذلك ".
&
وكنتيجة لهذا الحذر نشأت ما سمي بالثورة المضادة (4) والتي تبعها اتخاذ خطوات إجرائية بحق تنظيم حزب الإخوان المسلمين (القاسم المشترك بأحداث ما سمي بالربيع العربي) من قبل بعض الدول العربية وذلك بحظر الحزب ووضعه على لائحة الإرهاب كما في مصر والسعودية والإمارات.
"سبق أن أشرنا في مقال سابق ان مثل هذه الخطوة السابقة قد يتغير مجراها أو تقنينها وفقا للمصالح والمعطيات السياسية اللاحقة لكل بلد!".
&
التجارب الانتخابية السابقة لوصول الأحزاب السياسية التي تضفي على نفسها الطابع الإسلامي (أياً كان انتمائها الفكري أو صلاحها من عدمه) لسدة الحكم الشامل أو محاولة الوصول له في بلدانها معتمدة على قاعدتها الجماهيرية دون وجود قوى عسكرية مركزية مساندة لها أو تقف على الحياد أثبت الواقع السياسي العربي فشله الذريع (الجزائر-مصر-اليمن).
&
لذا لجأت وتلجأ تلك الأحزاب كواقع مشاهد الى تشكيل اجنحتها العسكرية الذاتية تحت مسميات ومسوغات مختلفة مستفيدة من حواضن حالة عدم الاستقرار الأمني في بعض الدول العربية كسوريا والعراق وليبيا وأجزاء من مصر واليمن أو حتى تلك البلدان التي تقع في حالة ترقب سياسي مستقبلي كتونس والجزائر.(5)
مما يعني ضمنياً استمرار حالة الصدام في المنطقة العربية وزيادة في تفتيتها وتفككها وضعفها أمام المخاطر الخارجية
التي بدأت تتضح معالمها بشكل واسع, وما التصريحات الإيرانية الأخيرة أتجاه دول مجلس التعاون إلا أحد تلك الشواهد!.
&
استجلاب الحكمة في التعاطي مع الأمور السياسية في المنطقة العربية من قبل قيادتها أمر حتمي ومُلح. فدون تقديم المصالح العامة على المصالح الضيقة والسعي الحثيث لتعزيز المصالحات الوطنية داخليا وخارجياً والتطلع نحو إقامة تحالفات دولية إقليمية موثوقة (بعد الكفاية العسكرية الوطنية) والدفع نحو تقديم مصلحة الشعوب واحقيتها في العدالة والمشاركة والعيش الكريم كمسلمات بديهية .فلن يخرج الأمر حينها عن حيثيات "الفوضى الخلاقة" التي يراد للمنطقة العربية أن تنال نصيبها من شقه الأول فقط.
ــــــــــــ
(1) مقال: الفوضى الخلاقة على أنغام الجاز الامريكي مقال: الروس قادمون
(2) تم هذا الإجراء في حقيقته بموافقة ومؤازرة القوات العسكرية الموالية لعلي عبدالله صالح والقبائل المتحالفة معه كردة فعل ورد الصاع صاعين لحليف الأمس.
(3) صرح أحد قيادات حركة النهضة التونسية المحسوبة على تيار الإخوان المسلمين في لحظة نشوة (بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي) بأن الربيع العربي لن يستثني أحداً بمن فيهم بعض أنظمة دول الخليج !. وبخطوة استباقية وذكية لقطع الطريق لأي تداعيات سياسية مستقبلية محتملة جراء تأثير ما سمي بالربيع العربي قام المغرب عام 2011م بإجراء أول انتخابات تشريعية في البلد (بعد تعديل الدستور) فاز بها حزب العدالة والتنمية الإسلامي وتقلد بعدها عبدالإله أبن كيران مقاليد رئاسة الوزراء.
(4) الثورة والثورة المضادة في أحداث ما سمي بالربيع العربي لم يحدثا في الغالب بفعل الحراك الشعبي العفوي المنفرد دون وجود التدخل السياسي الخارجي المساند له أو توقع حدوثه لاحقاً.
(5) استفادت تلك الأحزاب من خبرات ودعم المقاتلين الذين أرسلتهم مسبقا لمناطق القتال خارج المنطقة العربية (تحت مسوغ الجهاد) والذين بدورهم شكلوا مجاميع وتنظيمات عسكرية لازالت حاضرة.
كاتب في الشأن السياسي والاقتصادي
التعليقات