كم آلمَني وكم أحسست فعلاً بالحرَج والخِذْلان أنْ أسمع بهذه المصيبة بينما كُنا "نناضل!" في بلدي لإزالة الزبالة من شوارعه. الوضع أيضاً في غيرنا من البلدان المجاورة لم يكن يختلف كثيراً بل كان مشابها جداً مع فارق أنهم كانوا يتعاملون مع قذارات من نوع آخر! بالفعل يا له من عار أن يَلهوننا بالحديث عن إخماد نيران الحروب العَبَثِية المشتعلة في الطرقات ونيران النفايات الوالعة على المزابل بينما كان كل عضو من ذاك الطفل الفلسطيني يَتقلَّب على فراشه بنار عدونا المشترك!
فلكل سَاهٍ ولاهٍ... أَنْعي إليكم من جديد وبكل حرْقة قلب إحتراق فلذة كبدنا الرَضيع علي الدَوابشة!
وبناء على هذا النَعي، لا تنتَظروا مني سَرْد رسائل الإستنكار وبرقِيات المُسْتنكرين، أو نَقل روتين المُنَظِّرين وما يتكلمون عنه من حقوق الطفل والحيوان ووَجَع الرأس واللسان! الذي لم يُعطي حَقاً ولم يُحرر شِبراً ولم يُطفِئ ناراً أَحْرَقت طِفلاً. وبما أنَّ من يده في الماء ليس كَمَن يده في النار لذلك دعوني أنْقل إليكم ممن كان كل جسده غارقاً فيها، قُرائي الأعزاء أترككم مع لسان حال عَلِيّ في "رسالة" قد بِتُم على يقين أنها لن تكون "من تحت الماء":
مِن عليّ ابن فلسطين إلى البلاد أجمعين، تحية حارّة جداً...
&
أما بعد،
أُحدِّثكُم وقد شاء الله وبعد مرور فترة قصيرة جداً على حرْقي أن يَمر معظمكم وعلى إختلاف طبقاتكم بموجة حَرٍ لم تَشهَد البلاد مثيلاً لها منذ عقود طويلة جداً، ورأيت الكرب الذي أصابكم جراءها وكيف أنها أنْتَنَت معايشِكُم، وأكَلَت نيرانها الأخضر واليابس عندكم، وكيف نَفقَت وبالآلاف مواشيكم وأنْعَامكم، وكيف ضاقت أنفاسكم، وكم بات يساوي المتر المربع من فَيْءِ بساتينكم أو بقعة مُكيفة من مساكنكم، وكيف زاد يقينكم بأنَّ كوباً من الماء البارد الزُلال تفوق حاجتكم إليه آلافاً من ليترات الذهب المُذاب! وعلى ذِكْر نِعمة الماء أروي لكم حكاية قصيرة وفيها أنَّ إمرأة مؤمنة ولكنها كانت بَغِّيَة رأت كلباً يدور حول بئر وهو يكاد يقتله العطش فنزعت خُفّها من رِجلها وملأته بالماء ثم سَقتْه به فسمِعَت هاتفاً يُبشِرُها بالغُفران بسبب سُقياها للكلب! هل رأيتم يا بشر بِمَ نالت الغفران!.. يا مَن أسمَع وُعودهم ولا أرى زُنودهم! آهٍ... كم تمنيت لو كانت تمر بباب بيتي، فإمرأة كهذه ما كانت لتَتَردَد من سَلْخ تلك الأيادي الملعونة بخُفّها من قبل أن يَسلخوا لحمي عن عظمي بنارهم. كم كنت أفتقد للماء الذي بين يديها عندما كانت النيران تنشِّف كل ذَرة ريقٍ ودمع في حَلْقي وعيني! آهٍ... لو تدرون أنتم أيها اللاهون، كم أنَّ ظمَأ قلبي للشفقة كان يفوق عطش لساني للماء. أخاطبكم بأفصح لغة لأقول لكم ماذا لو كان بُكائي في تلك الليلة ترجمته كانت تعني فقط "أغيثوني ببلة ماء من قبل أن تفارقني الروح" ولكن هيهات كيف لكم أن تسمَعوني وصراخكم على بعضكم في إجتماعاتكم "الطارئة" يَحْجب عنكم ندائي!
أيها الساكِتون عن الحَقّ المُلتهون بالتَنَعُّم والنَقّ... موقِفٌ مُلتَهِبٌ مررت فيه دفعني لسؤالكم بحرارة تَفوق حرارة جسمي المحروق والحِمَم التي قَذفَتْها عيون أمي وهي تراني مُتلحِف بالنار بدل القماشة التي لفتني بها قبل النوم، أين كنتم وبِمَ كنتم مُلتَهون؟ كم أتعجب لحالكم وأنا أراكم تتحدثون عن شتى أنواع النار.. ومنها نار العشق والهوى والولع بالحبيب في أغاني حفلاتكم، وحَمَاوة ليالي سهراتكم الحمراء وأموالكم المحروقة على منصات الراقصات، وعن آب اللهاب وزيت الشمس و"البرونزاج" الذي تقومون به على شواطئ مَن يصبون الزيت على نار الفتنة والمصائب عندنا، وعن الولائم الفاخرة ونار الطبيخ وصَقعة البطيخ الذي تُطفئون به حرارة بطونكم المُنْتفخة! كم أتعجب لحالكم وأنا أراكم تتكلمون عن أي نارٍ وعن كل نارٍ إلا عن نارٍ عَرَّتْني وأكَلتني! وإلا عن نارِ الجحيم التي ربما تكونوا قد تَجَرَعتُم نَفَسَها في موجة الحَر التي إجتاحَتْكم! هي النار الوحيدة التي لو التَهَيْتُم بالتفَكُّر فيها لما كنتم التَهَيْتم عن إنقاذي وإنقاذ أطفال بُورْما والكثيرين غيرهم من نيران الحقد والظلم!
أيها المُسيئون لأنفسكم لا تُسيئوا فَهمي، فأنا لا أحسدكم على ما أنتم فيه من البلايا ولا أشْحَذ أموالكم ولا مُكيِّفاتِكم ولا مُكعبات الثلج من كؤوسكم فقد فات الأوان أصلاً على تَبريد لهيبي، إنما أنا أشحذ هِمَمَكُم لإسترداد الحقوق، ولإسترجاع النخيل والتين والزيتون، ولكي ينام طفلٌ غيري على سرير وفوق رأسه شباك يأتيه بنَسيم الأقصى وبيتِ لحمٍ والخليل... نسيمٌ يُخالط عبير أمجاد العُظماء الذين مَروا وعاشوا هناك.
بإختصار هذا كل ما يَستَعْطيه مُحتاج مِثلي.
وفي الختام، إليكم أيها الساعون إلى الحق أوُرِد لكم مَقولة الروائي جورج أورويل الذي قال: "مشاهدة ما يوجد أمام أنف المرء يحتاج إلى كفاح مستمر"... وأقول من بعده: فكيف إذا كان أمام أنوفكم رائحة إحتراق الدماء في عروقي والحليب على لساني!!!
المُخْلِص لكل مُخلِص،
علي
التعليقات