أحيت هبة الجماهير في الجنوب وبغداد الأمل في قلوب العراقيين، ولكن لا يزال عليها الكثير أن تحققه لقوامها الخاص، لتستطيع تحقيق ما تريده للقوام الوطني كله. فهي حتى الآن لم تدرك ذاتها بعد، فهل هي مجرد مظاهرات؟ هل هي انتفاضة محدودة؟ أم هي ثورة وطنية شاملة؟ فالحركات الجماهيرية كالإنسان نفسه ينبغي أن يتحدد جنسه ونوعه، لكي يعرف مساره وهدفه ومآله! فلكل جنس هدف ومهام وأعباء وتكاليف!
ولكي تعرف طريقها عليها معرفة الطرف المقابل، السلطة التي وجدت نفسها في صراع تاريخي معها: والتي نشأت من تحالف الأحزاب الشيعية الطائفية؛ مع الأحزاب الكردية العنصرية الشوفينية، في صفقة تخلى فيها متزعمو الشيعة عن الوطنية من أجل الطائفية، وتخلى فيها متزعمو الأكراد عن الطائفة والعراق من أجل عنصريتهم وشوفينيتهم! التحق بهم متزعمون محدثون من السنة عرفوا بفسادهم وجشعهم وضحالتهم، فتقاسموا معهم مقدرات الناس وحقوقهم تحت غطاء أمريكي إيراني!
هؤلاء يمسكون اليوم عصب السلطة، وما زالوا يمسكون به بكل قوة وشراسة، وقد تظهر وجوه للعيان، و تختفي حسب الظروف والمناخ العام؛ لكنها من حيث الجوهر تبقى كما هي، والعبادي ليس سوى وجهها "المختصر"! وهي بهذا الخليط الهجين من الإسلام السياسي، والقومية المتغربة المتوحشة، أنتجت دولة مشوهة كسيحة، بدستور هو اقرب لوثيقة مافيات تتقاسم السوق والمدينة!
هذا الحلف الرهيب والمدمر هو الذي أوصل العراق إلى هذا الحال من الدمار والانحطاط، وكل عمليات الفساد والإفساد جرت لتغذيته وديمومته عبر شراء الذمم،وتزوير الانتخابات، وتكوين قضاء مسيس منخور منحرف، وإقامة فضائيات مليونية، وتسليح مليشيات ودفع رواتب أعضائها ومستشاريها من الإيرانيين وحزب الله اللبناني، وتسيير مواكب اللطم والتطبير، وحياة البذخ والهدر وتغذية نظام بشار، وحقن النظام الإيراني بجرعات سرية من المال،وما تبقى جرى تقاسمه في حساباتهم الشخصية كسرقات وغنائم حرب! حجة طائفيي الشيعة في ذلك، تعويضات عن 1400سنة من مظلومية أتباع أهل البيت! وحجة متزعمي الأكراد في ذلك الحقوق القومية المغتصبة! وحجة متزعمي السنة أنهم يريدون حماية طائفتهم من هجمة إيرانية كردية، وهكذا ضاعت أموال وحقوق الفقراء العراقيين من الشيعة والسنة وغيرهم!
من المعروف أن الإصلاح يعني عادة إزالة نتائج سيئة للنظام مع الإبقاء عليه ككل؛ بينما الثورات تريد إزالة النظام المسبب لهذا الخلل وكل الإختلالات الأخرى!
إذا كان الحراك الجماهيري الجاري اليوم لإزالة أسباب الفساد والخراب العام فعليهم التصدي لهذا الحلف المشئوم بتفكيكه وتصفيته، وبناء عهد جديد يقوم على قيم الوطنية والمواطنة وحل القضية الكردية على أسس جديدة غير مجحفة بحق العرب والأكراد والتركمان والكلدوآشوريين جميعا، فليست الطائفية وحدها هي سبب خراب العراق، بل يضاف لها سياسات الزعامات الكردية القائمة على التوسع والطمع والابتزاز وتسعير الفتنة بين الشيعة والسنة لمآرب عنصرية لم تعد خافية على أحد، ولم تعد تحتمل!
كثيرون في جسد المظاهرات خاصة أتباع المرجعيات الدينية يريدون إصلاحات سطحية ترقيعية، تزين وجه الحيزبون وتظهرها عروسا بكرا فاتنة، بعبارة أخرى تجديد حكم الطائفة بضخ دماء جديدة إليه! بل ثمة من يريد من المظاهرات المضي في عملية الصراع القائمة بين مرجعية السيستاني ومرجعة خامنائي، وثمة ثائرون حقيقيون في المظاهرات ينشدون حكما وطنيا، وعهدا جديدا يقوم على الوطنية العراقية التي سحقت بالجزمة الأمريكية الإيرانية!
وحتى الذين يطالبون بإصلاحات محدودة تتعلق بالقضاء أو الكهرباء والخدمات فإن عليهم أن يحققوا اختراقا في هذه الكتلة الهائلة الصلبة، والتي ما تزال متماسكة مهما وقعت بينها من خلافات، أو دخلت بألاعيب ومساومات! وأصحابها لن يتخلوا عن سلطتهم وامتيازاتهم ومشاريعهم وارتباطاتهم حتى لو احرقوا ما تبقى من العراق!
فكل لديه ميليشياته وعصائبه ومافياته، ولدى الأكراد زعماء بيشمركة انتقلوا من بندقية الجبل إلى أرصدة البنوك وتهريب النفط ودويلة أمراء الحرب والعلاقات العلنية والسرية مع إسرائيل آخذين بالنهج الصهيوني في الاستحواذ على الأرض والاستيطان فيها ظلما وعدوانا!
كثير من المتظاهرين يحاولون أن ينفخوا الروح بالعبادي ليكون زعيمهم الوطني،وبطلا للتغيير المنشود! لكنه غير قادر على ذلك، فالأمر لا يتوقف على خروجه من حزب الدعوة، ولا على كاريزما الزعيم التي يفتقدها ( فالزعامة كالشعر والفن: موهبة وثقافة وخبرة) والعبادي لم يخلق ليكون زعيما، ولو كان قد خلق زعيما وطنيا لما قضى أكثر من ثلاثين عاما عضوا في حزب متخلف طائفي،تابع لإيران، ومن شب على شيء شاب عليه! باختصار شديد:هو لا يملك من السلطة إلا واجهتها، وما حاول أن يتصرف فيه من لبها ومحتواها كان شكليا، فعلى أرض الواقع ما يزال الذين ألغى مواقعهم العليا يكمنون في مواقع أخرى محاذية أو مجاورة؛ يمارسون سلطتهم وبتحفز اشد، أكثر ضراوة، وأصابعهم على الزناد!
تذكرني وعود العبادي وإنذارته لبؤر الفساد ببيت شعر للجواهري يتوعد فيه الحاكمين في العهد الملكي يقول في صدره:
(أنا حتفهم؛ ألج البيوت عليهم) ونتوقع أن الشاعر سيذهب إليهم بسيفه البتار ليلقيهم خارج بيوتهم، ومقرات حكمهم، لكنه يفاجئنا بقوله ( أغري الوليد بشتمهم والحاجبا)
أهذا إذا كل ما في أنا حتفهم؟ (وسيكون من المضحك المبكي أن يعبر هذا البيت عن حال المتظاهرين أيضاً) حتى لو نزل العبادي إلى سفينة الإصلاح؛ فإنه لن يمضي مع الجماهير الحالمة بالثورة الحقيقة إلى نهاية الشوط، لأنه ليس ثوريا بطبعه، وفاقد الشيء لا يعطيه! لذا فإن على الحالمين بثورة وطنية شاملة أن يلغوا العبادي، والمرجعية من حسابهم تماما!
أما إذا أرادوها حملة مظاهرات وإصلاحات؛ فليمضوا في طريق الهتافات وشعارات ورق الكارتون،وانتظار خطبة الكربلائي يوم الجمعة، ولكن عليهم أن يدركوا، أن حتى هذه المطالب والشعارات المتواضعة ستصطدم بتعنت قوى كثيرة، وسيدفعون جراءها ثمنا باهظاَ أيضاً!
على محركي وطلائع هذا الحراك الجماهيري الكبير أن يأخذوا العبرة من انتفاضات ووثبات وثورات العراقيين السابقة فهي كانت دائما تستحم بالدماء، ولا تحدث من التغيير ما يساوي قطرة من دم شهيد واحد، والعلة في كل ذلك هي عدم إدراك قدرات الناس، إزاء قدرات الخصم أو العدو،وإنها أخذتها نشوة الشعارات والقصائد الرنانة! ذلك يدعونا لنكرر الدعوة، لقيادة موحدة منسجمة واعية، تكتب مشروعا وطنيا متكاملا، وتطلق حملة لجمع تواقيع الملايين عليه، مع قدرة على رفع مستوى خطابها وزخمها مع عصف الأحداث والظروف!
فالهبات والانتفاضات والثورات لا تتحقق بالصرخات ولا بصيحات الغضب المشروعة وحسب، بل بالخطى المدروسة الواعية والناضجة والمحددة المعالم (استراتيجيا وتكتيكيا) كما يقال بلغة اليوم!
وبقدر ما تتضرر الهبات الجماهيرية من نزعات الإحباط والتيئيس وتثبيط الهمم؛ تتضرر أيضا من الأوهام والآمال الكاذبة؛ ومن تبسيط الأمور، والقول أن الطرق سالكة، بينما هي مزروعة بالألغام ومحفوفة بالضواري والمتربصين بها، فقط يستدرجونها إلى منعطف على الطريق؛ لاغتيالها فيه!
المظاهرات ما تزال تراوح في مكانها،وتبدو السلطة وكأنها قد احتوت صدمتها وامتصتها، وأفاقت، وراحت تشدد الحصار حولها، لكن الغليان الشعبي سيستمر وقد كسر حاجز الخوف، والإيمان الديني والمذهبي الأعمى، وسيكون بوتائر تصعد وتهبط حسب متغيرات عديدة، وسيزداد تعقيدا في ظل أزمة البلاد المتفاقمة جراء انخفاض أسعار النفط، وتضاؤل موارد الدولة، وتطورات الحرب على داعش، ما&يضع العراق عند مفترق طرق؛ فأما التغيير العميق والسير في طريق التعافي والازدهار، أو الانحدار نحو الهاوية!
التعليقات