كنتُ في كَرْبلاءْ
قال لي الشيخُ إن الحُسينْ
ماتَ من أجلِ جرعةِ ماءْ!
وتساءلتُ:
كيف السيوفُ استباحتْ بني الأكرمينْ
فأجابَ الذي بصَّرتْه السَّماءْ:
إنه الذَّهبُ المتلألئ في كلِّ عينْ
إن تكُن كلماتُ الحسينْ
وسُيوفُ الحُسينْ
وجَلالُ الحُسينْ
سَقَطَتْ دون أن تُنقذ الحقَّ من ذهبِ الأمراءْ؟
أفتقدرُ أن تنقذ الحقَّ ثرثرةُ الشُّعراء؟
هكذا تحدث "الجنوبي" أمل دنقل ذات صباح كئيب حينما افترسه السرطان اللعين، ورحنا نزفه لقبره في كفن دفع ثمنه بائع صحف شهير، صار لاحقًا أشهر ناشر مصري، وهو الحاج مدبولي، يرحمه الله.
ومنذ ذلك الصباح الكربلائي راح "صاحبكم" يتكئ على مراثيه، وعلى أكوام الأتربة والحجارة والفوضى التي كانت ذات يوم قريب ساحات للحياة، والأيام الصالحة للاستخدام الآدمي
يتكئ على الغياب.. وعلى خاصرة الزمن المستوحش في هذه البلاد التي سقطت فيها شعارات اللغة وبالأحرى لغة الشعارات وثقبت فيها ورقة التوت الأخيرة
متكئا على ظله.. قرر "صاحبكم" ألا يمضي في هذا الزحام الوحشي من الأحداث والأقنعة والأفكار وجلال الموت، وحتى أقدار الشهداء النبلاء.
قرر نسيان وجوه من أحبهم ومن كرههم، وملامح البيوت والشوارع والأعلام والأقلام النابضة بالدراهم والدنانير، ولا يتذكر إلا انه وريث كل هذا الخراب العلني، وريث ألف مجزرة ارتكبت دفعة واحدة وبالتقسيط المريح، وسترتكب بأسلحة بيضاء، وأفكار سوداء.
قرر أن ينسى أنه أحد الكائنات المطعونة في الظهر والصدر، ومطعونة في معناها ومنفاها، وفي قدرتها وعجزها، وفي كل التفاصيل الملونة والملوثة، والأفكار العاجلة لأناس كتب عليهم الركض والركض إلى خط النهاية الوهمي.
كما قرر "صاحبكم" نسيان ذكريات المدن الآفلة، والآيلة للسقوط أو النهوض، ويرتدي معطفا يقيه من الشتائم والسخائم والمرارات، وأن يعتلي حصانه الخشبي ليخوض أكبر معركة موجعة في تاريخه، معركة يكون فيها الفارس الأوحد، والقائد الأوحد لانتصار لقيط بلا رايات ولا بيانات، أو ضحايا سواء كانوا أوغادًا أو شرفاء.
قال لي "حكيم جنوبي" من صعيد مصر: "إن المحارب الشجاع هذه الأيام هو الذي يقتل نفسه قبل أن يقتله عدوه، وهو الذي يعلن هزيمته طواعية قبل أن يعلنها عدوه، وهو الذي يدرك خسارته قبل التفكير بالتورط في المعركة، وقبل أن يحاول لمس سيفه المغروز في لحمه، ودمه، ودموعه وضلوعه.
قرر "صاحبكم" أن ينسى الدلالات، والإيحاءات والإيماءات والرموز وأن يُبقي على بعض الإشارات الباردة، فمثلا لا يتذكر إلا اسمه الذي سيحتاجه عند آلاف نقاط التفتيش والترتيب والملاحظة والمراقبة والملاحقة، وعند الخط الأخضر والأزرق والأحمر، وخطوط التماس والاستواء، ومدارات الميزان والسرطان وبقية الأبراج.
في أوطاننا المنكوبة.. وهناك في عمقها يلتقي الأخوة الأعداء يتبادلون الشاي والقهوة والصور الجماعية، يخلعون سيوفهم.. رايات للاشئ، وينامون عُراة على غضّ الطرف عن كل هذا الموت المجاني.. وهذه البلاد المسرعة إلى حتفها المحتوم.
قرر ألا يذكر مهنة له سوى الانتظار.. نعم الانتظار والتدخين، وأن تنحصر هواياته في جمع الطوابع والعملات القديمة والضحكات القديمة، والتماثيل البرونزية، وعظام الموتى، وكتابة "النصوص المراوغة" كما حرص على حفظ أسماء جميع الساسة ورجال الأمن عن ظهر قلب، وعن ظهر شعب، وجمع القواقع ليسمع صوت البحر حين يدعو إلى ذلك الطقس الأسطوري لغرق جماعي مهول ينتظرنا جميعًا لا محالة.
قرر "صاحبكم" أن ينسى كل شئ، ويحتفظ فقط بذلك الباب الموارب، والنوافذ المواربة، والانتماءات المواربة، ولون عيون الأوطان الدامعة والتي ستبقى هكذا حتى يحدث شي ما.. في مكان ما.. لا يعرفه.
وأخيرًا اتكئ "صاحبكم" على مقعده الأثير وراح يردد كلمات "الجنوبي" الأخيرة بصوت مفعم بالشجن والأسى، لكنه رغم ذلك مُغمس بالتحدي والنخوة والحكمة:
أقول لكم: أيها الناس.. كونوا أناسًا
هي النار.. وهي اللسان الذي يتكلم بالحق
إن الجروح يطهرها الكّي.. والسيف يصقله الكيرُ
والخبز ينضجه الوهجُ
فلا تدخلوا "معمدانية الماء".. بل "معمدانية النار"
كونوا لها الحطب المُتشهي.. والقلوب المتحجرة
كونوا هكذا حتى تعود السماوات زرقاء.. والصحراء بقولاً.. ترقص عليها النجوم محملة بسلال الورود.
كونوا.. أو لن تكونوا