كان حزب الله بسيطًا، حاله حال كل الناس، نعرفه ويعرفنا، ندعمه ونربّت على كتفه بينما ينهمك في حدث ما على طول الخط وعرضه مع فلسطين، لم نفكر يومًا بأنه يختلف عنا أو نختلف عنه، بل كنا نظن بأنه يسبقنا بأشواط نحو ذاك الشرف الذي عجزنا عن بلوغه، نحن "التنابل" ورعاع العرب من المضيق إلى المضيق.
&
صحيحٌ أن الإعلام ساهم، ولا يزال، في شيطنة حزب الله ومشروعه وأهدافه، وصحيحٌ أن التوتر المذهبي عمّق الفجوة بين هلال نافر ومحيط هادر، لكن الصحيح أيضًا، أن الحزب تجاوز الجميع في الإساءة إلى نفسه، وفي تصفير رصيده الوجداني على نحو مريب، تمامًا كما لو أنه الوسلية الأنجع لسحق ظاهرته وأفول نجمه وانحسار عبقه.
&
في مشهدية الهبوط تحضر أكثر من رواية، يُمكننا مثلًا أن نعرّج على خطابات الأمين العام منذ ما اصطلح على تسميته ربيعًا عربيًا، يمكننا أيضًا أن نذهب عميقًا في تشريح الهفوات وتفنيد العبث ومقاربة الجنون، لا بأس هنا بإغفال المغامرات والكبوات المحسوبة وغير المحسوبة، يكفي أن نراقب بصمت حسن هرولته نحو الهاوية، وقدرته المستفزة على الطعن، مرة تلو الأخرى، لما ظننا يومًا بأنه أسطورة فولاذية غير قابلة للطعن أو الانكسار.
&
بالأمس رحل سمير القنطار، اغتالته اسرائيل عبر مقاتلة أخذت طريقها إليه ضمن سماء مزدحمة بما تيّسر من قتلة، استقبلها الرجل بصدره الرحب، وفي ذاكرته فكرة يتيمة: أي لعنة تلك التي حرمتني الموت في "نهارّيا" وأرادتني أن أذهب بربع شهادة في بحر يضّج بالدم والعويل، أي لعنة تلك التي جعلتني أسفك ما يُقارب نصف قرن من الصمود والمقاومة والأسر لأقتل ها هنا، في جرمانا، على مقربة من المدن التي أسقطوها، وأنا معهم، على رأس قاطينها. &
&
رحل سمير حزينًا، حتى وإن كابر وتلطى خلف عبارات يدرك في قرارة نفسه أنها كاذبة، حزنه يوازي حُزننا، ويوازي فرح حزبه برحليه، حزبه الذي أراد أن يُذكرنا عبره بأن البوصلة لم تنحرف، وأن المواجهة مع "العنكبوت الواهن" مستمرة وقائمة، ولن تشوش على حُسن سيرها معارك هامشية وعابرة في سوريا واليمن والسعودية والبحرين والعراق ولبنان.
&
لكن، وبرغم هذه القتامة، رحل سمير محظوظًا، فماذا لو قُتل كرفاقه المنغمسين في أزقة حلب أو ادلب أو حمص، كان سيُشيع تحت جنح الظلام، وستُسرب صور رحليه الأبدي عبر هاتف رثّ استرق سبقًا يُقدمه لإعلام جائع، ما كان سيحظى بجنازة معتبرة، أو ببيان يزفه إلى العموم شهيدًا قضى على طريق من المفترض أن يصل إلى القدس، وحده الصاروخ الإسرائيلي شعر بمعاناة الرجل وانتشله من الدرك، ولو بربع شهادة، أو لنقل، موتٌ لا يخلو من الشرف، أقله من حيث الشكل.
&
رحل سمير فرحًا، ربما يشاهد الآن من قبره ما يتداوله "أشرف الناس" عن "مفخرة" مضايا، وربما وصله بيان الحزب، أو مشاركات جمهوره عبر وسائل الإعلام البديل، أو لنقل، تحسس "كرشه" الوازن وهو يراقب ما تسرّب من صور تُظهر جياعًا يلتهمون القطط والكلاب وأوراق الشجر، فيما لسان حاله يقول: لو كان للجنة اسم آخر .. لكانت سجون إسرائيل!
&
لا تسعفه الذاكرة ليستحضر أشهى الطباق التي تناولها، أو الفرحة التي شعر بها لحظة إمساكه بشهادته الجامعية، وربما لا يذكر أيضًا نبأ حصوله على لقب عميد، وكيف راح يزهو أمام كرامته متمايلًا على وقع ثمالته بلقب يضّج بالشرف، والأكيد أنه لا يذكر لحظة وصوله إلى نهارّيا، وكيف أقدم على خوض البحر بزورق من هيام، فيما سبابته تداعب قرص الشمس وكأنها غلام يرقد بين راحتيه، لا شيء يحضره في قبره، لا شيء سوى شكرًا .. شكرًا للسجن، وشكرًا للصاروخ!
&
رحل سمير غير آسف على رحليه، هو يمنّي نفسه بظلام يهرول نحو منطقة ترزح في قلب الجحيم، يُخبرها بأنه رحل في الوقت المناسب، وبأن ما حازه من شرف، ولو شكلي، سيضاهي أكثر الأموات شرفًا بين صفوف قومه ورفاق سلاحه اللاحقين، يضحك ويبكي، ثم يعيد النظر بعقل بارد إلى ما اقترفه ورفاقه، يضحك ويبكي وفي باله خلاصة واحدة وحيدة: "درهم مقاومة خير من قنطار جنون".

&