أثار اعلان ممثل مرجعية النجف السيد احمد الصافي ان الخطبة السياسية التي تمثل رؤى المرجعية الدينية العليا في الشأن العراقي لن تكون أسبوعية، مخاوف الشارع الشعبي، فيما يرى مراقبون ان القرار يمثل رسالة للقوى السياسية العراقية، التي تقف ضد الحركة الاصلاحية التي نادت بها مرجعية السيستاني، منذ انتخابات عام 2014.
وبالرغم من ادراك المرجعية الشيعية ان الوضع الامني والسياسي في العراق، لايسمح لها الآن بقول كلمتها الفصل في العملية السياسية برمتها، ما يعني ان امام القوى السياسية العراقية مساحة من الوقت لتغيير مواقفها، ودعم قرارات رئيس الوزراء حيدر العبادي والخطوات الاصلاحية التي ينوي اتخاذها من اجل احداث التغيير الحقيقي.
وبينما تُدرك القوى السياسية في العراق ان استمرار قرار المرجعية قد يتبعه اجراء اكبر. وهذا الاجراء يعني أمرين لاثالث لهما: الاول الدعوة لاجراء انتخابات تشريعية مبكرة، والثاني تشكيل حكومة تكنوقراط تلغي المحاصصة الطائفية والقومية التي جاءت مع الاحتلال الاميركي.
من هنا يمكن فهم دور وقدرات المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني في صنع القرار العراقي، وهو الدور الذي يعتبره كثيرون لغزاً محيراً، اذ ان قليلين هم من يعرفون حقيقة ما يجري في منزله الذي يقع في زقاق ضيق متفرع من شارع الرسول، في النجف ويخضع لحراسة تطوعية مشددة، حيث يعيش في عزلة فعلية.
ويعد السيستاني الذي يقلده ملايين الشيعة حول العالم، أعلى زعيم ديني شيعي في العالم وأحد أبرز رجال الدين فيه، ويدين الملايين من أبناء الطائفة الشيعية في العالم بالولاء له، وأدت فتوى (الجهاد الكفائي) التي اطلقها في الثالث عشر من حزيران/يونيو 2014 في اعقاب سقوط الموصل بيد عناصر تنظيم داعش، دفعة قوية للصمود الشعبي بوجه تطرف المتشددين والارهابيين.
وبالرغم من ان وجهة نظر السيستاني حول مفهوم المرجع، يكمن في الدفاع عن الاسلام والمجتمع الاسلامي وليس في السلطة المطلقة على كل شؤون الدولة كما ظهرت في شكلها الاستبدادي في ايران، الا ان المتتبع للمشهد السياسي العراقي منذ الانتخابات التشريعية الاخيرة التي جرت في نهاية نيسان/ابريل 2014 يمكنه تلمس الدور المتعاظم للمرجع الأعلى في قيادة العراق، ليس على نهج ولاية الفقيه والمرشد وانما وفق مدرسة (الولاية الخاصة) التي يؤمن بها ويتبعها مراجع النجف منذ تأسيسها قبل مايزيد على الف عام على يد الشيخ الطوسي.
ولعبت المرجعية الدينية في النجف دورا كبيرا منذ الأيام الأولى للاحتلال الأميركي للعراق، وكانت المرجعية عبر دعواتها وفتاواها تقدم بداية دورها كمقام عال وصوتاً يحظى باحترام واسع، وقد أستثمرت المرجعية هذه العناصر في ترسيخ قيم العقلانية وفي كبح جماح التطرف ودعوات الانتقام لجهة ترسيخ الدعوة الى الحل عبر القضاء المنصف وبما يبدل الانتقام الأعمى بعقلانية القصاص العادل. &
أن هذه الأرهاصات الأولى كانت مقدمات لدور جديد لعبته وتلعبه مرجعية النجف والمرجع الاعلى أية الله السيستاني في الشأن العراقي الزاخر بالأزمات والتقاطعات وبما يشبه حقل ألغام مترامي الأطراف. وكانت المرجعية حاضرة في هذا الخضم المتلاطم من الأزمات، كما كانت أبوابها ومازالت مفتوحة أمام من يقصدها من زعامات سياسية طلباً النصح والمشورة .&
ومع تنامي هذا الدور بدأت الوقائع تنقل المرجعية صوب مديات أكثر تصدياً فيما يتعلق بالشؤون الداخلية للحكم وبخاصة ظاهرتي الفساد المالي والاداري الذي أصبح واحدا من المفردات الدائمة في خطب الجمعة، كما أصبح واحدا من أسباب الامتعاض والقطيعة بين المرجعية والسلطة التنفيذية ممثلة برئيس وزراء العراق (2006-2014) نوري المالكي، وكان لتلك القطيعة أثرها في تبديد أحلام المالكي في الحصول على جواز المرور لولاية ثالثة.
ومع وصول حيدر العبادي الى موقع السلطة، بدأت المرجعية دورا أكثر وضوحا في رسم معالم الحكم في العراق، وبدأ منبر الجمعة، يشكل نقطة استقطاب للجمهور لما يطرحه من ملاحظات سرعان ما تجد صداها في أروقة الحكومة. ويُمكن للمتتبع أن يرى أن معظم تلك الملاحظات تستند الى معلومات موثقة تنم عن احاطة دقيقة من المرجعية بواقع الحال لأنها لم تتوقف عند حدود ابداء الملاحظات وأنما أرفقتها بتقديم الحلول، وكانت الحلول تتضمن معلومات تفصيلية تؤكد وقوف المرجعية على أدق تفاصيل حركة الدولة وقد ظهر ذلك جليا في قضية الطلبة العراقيين المبتعثين الى الخارج وتخفيض رواتبهم، فضلا عن دخول المرجعية المباشر على خط اسعاف واغاثة النازحين وسكان المناطق الساخنة، اذ كانت لها أكثر من وقفة في هذا المجال وكانت سمة الوطنية هي السائدة في تعاطيها الخاص بجهود الاغاثة، ما دفع الكثير من الفعاليات الدينية والسياسية والاجتماعية من خارج المكون الشيعي الى الاشادة بهذا الدور والاعراب عن ثقتها واحترامها للمرجعية كمؤسسة وطنية عابرة للطائفية، فضلاً عن رفض المرجعية وتنديدها بالانتهاكات التي تمارسها بعض العناصر المنضوية تحت عباءة الحشد الشعبي، ودعوتها لرفع علم العراق فقط بدلاً من الرايات الاخرى.&
أما لماذا لاتلتزم هذه الميليشيات بفتاوى السيستاني هذه وهي التي تقول ان خرجت تلبية لنداء المرجعية؟.. والاجابة ببساطة ان نحو 90 بالمائة من عناصر الحشد الشعبي لايقلدون السيستاني، وانما يرجعون في التقليد الى المرشد الايراني علي الخامنئي.
وتشير القراءة المتأنية لحركة مرجعية السيستاني إلى أن المرجع الأعلى قد تخلى، جزئياً، عن تقليديته في مقاربة الشأن السياسي، فالمعروف ان السيستاني يتبع مدرسة مراجع شيعة كبار آخرين (كأبي القاسم الخوئي والبروجردي وغيرهم) تقول بمحدودية الصلاحيات التي ينبغي أن يتمتع بها المجتهد أو الفقيه من رجال الدين الشيعة، ويبتعد بالقدر الممكن عن السياسة. وهذه المدرسة لا تشجع المجتهد على التدخل في المسائل السياسية للدولة، إلا أن السيستاني خرج عن هذه التقليدية وأصبح خلال السنوات المنصرمة أكثر المراجع انغماساً في الشأن السياسي العراقي، لكن تحركاته كانت على نحو منضبط ومحسوب، وليس على غرار دور (المرشد الأعلى) في النظام السياسي الإيراني.
وهنا يٌثار تساؤل مهم: هل الفكر الشيعي السيستاني المتسامح سيصمد أمام ولاية الفقيه المسخرة بكل قوتها لمصالح ايران وهل تستطيع السيستانية التفوق عليها داخل العالم الشيعي؟. الاجابة تأتي على لسان احد ابرز الكتاب الشيعة، وأكثرهم اعتدالاً وايضاً ليس من مقلدي السيستاني، هو غالب الشابندر، الذي يرى في الظاهرة السيستانية طوق النجاة للشيعة في العالم، كونه يرى ان "منهجية المرجعية السيستانية، أثبتت قدرتها على مواكبة العالم، وقدمت أكثر من دليل على أنها جديرة بأن تُنْتَهَج في مثل هذه الظروف الخطرة".&
لكن ايضاً هناك ايضاً فرضيات كثيرة تطرح حول طبيعة دور الرجل، منها ما يعتبر أن السيستاني ينفذ أجندة ايرانية في العراق لأن جنسيته ايرانية، ومنها ما يرى فيه نداً للايرانيين بسبب رفضه لـ (دولة ولاية الفقيه) ولمرجعية السيد علي خامنئي (مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية).&
وقد كانت فتاوى السيستاني في حزيران 2003 وتشرين الثاني 2004 بخصوص ولاية الفقيه قد سلطت المزيد من الضوء على مفهومه للحكم الديمقراطي بطريقة اكثر ابداعا، حيث ان فكرة السيستاني في تدخل ديني موسع في الشؤون السياسية يستلزم الدور الواضح لرجل دين-عالي المرتبة في حماية المجتمع، لاسيما الملفات والمواضيع السياسية المتعلقة مباشرة بوضع المجتمع المسلم.
وبرزت مؤشرات كثيرة تؤكد ان للسيستاني تأثيرا دائميا على المجتمع السياسي الشيعي، فقد كان للسيستاني دور مشرف في الوقوف بوجه النمط الطائفي من الفيدرالية، كما شجع تدخله ايضا، العرب السُنّة على مشاركة سياسية لكسر الهيمنة الكردية - الشيعية على الحكومة العراقية.
لكن الموقف الأبرز، للسيستاني، هو سحب البساط من تحت أقدام الجنرال قاسم سليماني الذي سطع نجمه اعلامياً خلال معارك جرف الصخر وآمرلي وديالى، والايام الاولى لمعارك تحرير تكريت، اذ تنبه السيستاني للأمر وأجبر المرشد علي الخامنئي للمرة الثانية، خلال عام 2014، على الانصياع والرضوخ لارادته، التي جاءت متناغمة تماماً مع المصلحة العراقية ورغبات العرب السُنّة من اهل تكريت والانبار والموصل. وكانت المرة الاولى في اذار 2014 عندما أرسل رسائل حاسمة وحازمة، بشأن عدم التجديد لرئيس الوزراء نوري المالكي بولاية ثالثة، ما أجبر الخامنئي على الرضوخ وسحب تأييده للمالكي.
من هنا يُمكن القول ان السيد السيستاني بدأ فعلياً بتحجيم النفوذ الايراني الديني والسياسي، لاسيما ان ايران المرشد الخامنئي، خطت باتجاه تمددها المرجعي في النجف، العاصمة الرسمية للمرجعية الشيعية العليا، عبر تأسيس أكثر من 100 حوزة شيعية في العراق تتم إدارتها من قبل ممثل علي خامنئي.&
&ووفق هذا المنظور، يُمكن للسيستاني أن يساهم في تقليل التوترات الطائفية وذلك بالعمل مع الزعماء الدينيين الآخرين من السُنّة والشيعة للدخول في مبادرات المصالحة الوطنية بأهداف ثلاثة: تشكيل جبهة قوية شيعية – سُنيّة، التعبير عن إدانة المتطرفين الوهابيين المناهضين للشيعة والمتطرفين المناهضين للسُنّة، وتشكيل تضامن اجتماعي بين الطائفتين.&
من هنا، يُمكن القول إن المرجعية باتت اليوم صمام آمان فاعل لأزمات العراق، وهي مرشحة للعب دور أكبر في وضع الحلول للكثير من التقاطعات السياسية، لا بل أن دوائر كثيرة ترجح أن تلعب المرجعية دوراً محورياً في صياغة مشروع وطني عراقي ينتشل هذا البلد من المشكلات والتحديات التي تجابهه، وصولا الى تمكينه من استعادة دوره النوعي في محيطه العربي والاقليمي.

كاتبة عراقية
&