ما شهدته الجلسة البرلمانية العاصفة من صراعات جانبية بين مندوبي الكتل السياسية، اشار الى حجم الكارثة التي كانت تنخر بحياة المجتمع العراقي. كما اشار الى ان هنالك بوادر مازق جديد يمكن له ان يضاف الى ثلاثية المعاناة العراقية ( الارهاب، الازمة المالية، الانقسام المجتمعي ). لتصبح بذلك فكرة الاصلاح مدخلا لازمة سياسية خانقة.&

الحدث البرلماني و ما ترتب عليه من اقالة ضمنية لرئاسة البرلمان بات مصدرا مهما لطرح العديد من التساؤلات الملحة الخاصة بالمستقبل. اغلب هذه الاسئلة تدور حول طبيعة التحالفات و كذلك الدور الذي ستمارسه القوى المؤثرة في صناعة المشهد العراقي و بالذات منها واشنطن و طهران. فهل سيكون فعليا لكليهما دور ما في تحديد الوجهة المستقبلية للازمة الحالية سواء اكان باتجاه ادارتها و الحيلولة دون استفحالها ام باتجاه تصعيدها و تحولها الى خطر دائم يهدد مجمل الوضع العراقي ؟.&
&
التحالفات غير المستقرة.
خريطة القوى السياسية التي تتحكم بالاداء البرلماني جاءت بالاساس انعكاسا لافرازات العملية الانتخابية التي جعلت من قوى التحالف الوطني و الكردستاني و تحالف القوى بمثابة العناصر الاساس التي تلون بطابعها مسار التشريعات و ايضا المواقف السياسية داخل قبة البرلمان.&
لم تستقر يوما فكرة التوافقات و التشكيلات السياسية خاصة حين يتعلق الامر بالقضايا الخلافية ذات المساس بالمصالح الجوهرية لقادة الكتل السياسية و البرلمانية. ففي الازمة الاخيرة بات وللوهلة الاولى وكان التيار الصدري يقف في ساحة واحدة مع غريمه التقليدي ممثلا بتيار السيد المالكي. فكلاهما دافعا عن الية الاستبدال الكامل لمنظومة الكابينة الوزارية من خارج الاحزاب و المطالبة بالإطاحة برئيس البرلمان، مما اعطى للكثيرين مؤشرا على حصول تحول ما في العلاقة ربما اُفسد في اللحظة الاخيرة بفعل لي الاذرع الذي يمارس بين الطرفين منذ فترة ليست بالبعيدة. قد يضطر التيار لاحقا الى التاكيد على انه مقبل على التقارب اكثر مع الدعوة و ليس مع المالكي في خطوة يسعى فيها الى الحاق مزيد من الوهن في الدور الذي يلعبه الاخير في سياسة هذا الحزب و توجهاته. خطوة سيضطر التيار الى الاقدام عليها في ظل الحاجة الى توسيع قاعدة الحلفاء لتمرير مشروع الاصلاحات. وهو ما سيبقي خريطة التحالفات غير مستقرة بشكل كبير. &
في مقابل الرغبة الخاصة باقالة رئيس مجلس النواب كانت هنالك قوى عديدة تقف بالضد من هذا التوجه. &حيث يلتقي المجلس الاعلى و القوى الكردستانية و اتحاد القوى في مساحة مشتركة يتم فيها التاكيد على الاطاحة بمجمل الحكومة في مقابل تمرير مشروع التكنوقراط غير السياسي، او القبول بدلا منه بمنظومة اخرى يتم ترشيحها من داخل الاحزاب الحالية مع امكانية التفاوض حول مستقبل الرئاسات الثلاث. بعض التسريبات الخاصة بتحول موقف التيار الصدري من السيد سليم الجبوري توحي بان خطوة ما ستتخذ لاضفاء مزيد من العزلة على كتلة السيد المالكي في البرلمان.&
بين المنظومتين المتخاصمتين باتت الرسائل الحزبية اكثر قلقا، فالقوى الكردية تميل الى التاكيد على ضرورة دعم العبادي و قائمته الجديدة حيث وصلت النواب الاكراد تعليمات صارمة بهذا الخصوص تدعوهم الى الموافقة عليها حال طرحها للتصويت. في حين اكد اتحاد القوى بان اقالة رئيس البرلماني غير دستورية و هي محاولة للالتفاف على حصته في مشروع المحاصصة الطائفية. اما المجلس الاعلى فقد كان في اكثر مواقفه السياسية انفعالا بسبب حرمان اقطابه السياسية من ممارسة التاثير المعهود لهم في الحكومات السابقة.&
في مقابل ذلك باتت المدن التي ينشط فيها التيار الصدري في حالة غليان متصاعد قد يصل الى مراحل متقدمة اذا ما تم &تجاوز رغبات قادته في ان يكون الاصلاح شاملا لكل المنظومة السياسية. لذلك من المتوقع ان يكون هنالك تحشيدا مضافا لاجبار الاخرين على التكتل في ساحة واحدة يتزعم حركتها التيار الصدري لتوفير الدعم اللازم لحكومة العبادي. اشار البيان الاخير للسيد الصدر صراحة الى هذه الفكرة حين ذكر " على الوزراء تقديم استقالاتهم فوراً للتمهيد للنقطة الاولى وعليه فالشعب مطالب بالضغط على الوزراء ومقراتهم لتحقيق هذا المطلب "، وهو ما توج لاحقا باعتصامات امام مقار بعض الوزارات بطريقة توحي بامكانية تمدد و توسع هذا السلوك الاحتجاجي في الاسابيع القادمة من الزمن.&
امام هذا الموقف المتأزم تبرز مشاهد الصدام الحتمي في كل مرة يفشل فيها البرلمان من الوصول الى عتبة التجانس السياسي المطلوب لتحسين اداء الحكومة، وهو موقف قد يضفي مزيد من الارباك على التفاعلات و ايضا التحالفات السياسية من خلال تحويل المدن الى ميدان واسع لممارسة التنافس السياسي باعتبارها البيئة الجغرافية الامثل لاختبار القوة في مجتمع مستعد لعمل كل شيء من اجل اثبات احقية المواقف السياسية للقيادات التي يؤمن بمرجعيتها السياسية و الدينية. وهي مدن قابلة لاشعال حريق كبير في اي لحظة تماس شعبية بين جمهور الاحزاب المتخاصمة.&
قد تكون اشارات السيد مقتدى الصدر يوم امس( 16 نيسان ) تاكيدا على مدى ضعف الترابط الممكن قيامه بين تياره و تيار السيد المالكي، وهو ما يشكل تاكيدا على فكرة عدم تماسك التحالفات الحالية و قابليتها لاعادة التشكل بعدة اتجاهات لا يخلو بعضها من مفاجآت ممكنة في ظل صراع المصالح و الرؤى التي تصبغ بطابعها فكرة المشاريع الاصلاحية المطروحة.&

عودة التفسير الهوياتي:
في ظل مُناخ الهويات المنقسمة سياسيا و مجتمعيا الذي برزت ملامحه بشكل اكثر وضوحا بعد 2003 بات المرء مطعونا في نواياه مالم يبادر اولا الى نقد الطائفة و القومية التي ينتمي لها، كي يكون ذلك مدخلا لتطمين الاخر بانه غير مستهدف باي خطوة او تحليل. والا فان النتيجة ستكون رفع مستوى الحديث الهوياتي عبر لغة الاستهداف و المظلومية و الاقصاء و التركة التاريخية التي يتم جلبها من عمق السنوات الماضية التي قد تتحول فجأة الى احدى مصادر الشرعية في اختزال مكون مجتمعي عبر حزب سياسي يعج بالفاسدين.&
بهذه الطريقة كان الرد الاول لقائمة السيد سليم الجبوري حيث عبر النجيفي عن فكرته القائلة بان ابعاد رئيس البرلمان في مقابل الابقاء على شخوص الرئاسات الاخرى انما يشكل استهدافا مباشرا للمكون السني !. مما يعني بان نوايا الاصلاح لن تكون مجدية مالم يتم الاطاحة بالاخرين وفقا لصيغة بيدق في مقابل بيدق يوازيه في الوظيفة و الدور الذي يلعبه على رقعة الشطرنج العراقية.&
الاستمرار بلغة التفكير و العمل السياسي الهوياتي هي التي ستدفع بالعراق كل العراق الى حافة الهاوية. وهي التي تقف وراء تحول البرلمان الى ساحة يتبارى فيها سياسيو الطائفة و ممثلو العشيرة بعد ان اصبح الوطن شعارا عابرا في مشاريعهم الضيقة.&
استخدام هذه اللغة ليس حكرا على مكون سياسي دون الاخر فالكل يؤمن بها و يتحرك وفقا لها حين تتصادم رؤاه و مصالحه مع توجهات الاخر. لذا بات السيد العبادي في حيرة واضحة من امره حيث فشلت كل الاليات التي يمكنه الركون اليها في اقناع الكتل السياسية بعد جدوى التفكير بهذه الطريقة التي انتجت نظاما فاسدا فاقدا للقدرة على الاتزان و اداء الوظيفة التي تناط بالمؤسسة الحكومية. دليل الارباك في ادائه بات واضحا عبر تقديمه لاكثر من قائمة بالمرشحين للكابينة الوزارية. خاصة وان قائمته الاخيرة التي تنازل فيها عن تصوراته لمصلحة الاحزاب اثارت مالم يكن بحسبانه مطلقا و بات مصيره السياسي في وضع اكثر اضطرابا من قبل.&
&
الدور الخارجي: اشكالية الحل المشروطة&
في مقابل تصعيد لغة الخطاب و تشددها بين مكونات السياسة العراقية، بدات تبرز في الافق بوادر دور حتمي لا يمكن تجاوزه في تحليل الوجهة المستقبلية التي سينتهي لها موضوع الاصلاحات. وهو دور يتأمل الكثيرون ان يساهم بشكل ايجابي في ايجاد مخرج مناسب يتم من خلاله اقناع القوى العراقية بصيغة متفق عليها بين كل الاطراف للوصول الى تسوية مرحلية ما تخرج البلد من عنق الزجاجة قبل فوات الاوان.&
يستند هذا الراي بشكل كبير الى فكرة التوافق الايراني – الامريكي في المشاهد السابقة لتشكيل الحكومات العراقية و دورها في اعادة دمج القوى المتناقضة قسريا في عملية غير متوازنة عادة ما تفضي في كل مرة الى تاجيل الانفجار و ادارة ازمته بدلا من حلها جذريا.&
مثل هذا التصور كان حاضرا في رؤية زلماي خليل زادة للحدث العراقي الاخير حيث اكد على ان المالكي لازال قويا و حاضرا في المشهد السياسي، وهو يملك القدرة على التحكم بطبيعة التحالفات واهدافها خاصة وان تمرير كابينة العبادي الجديدة ستبقي الكرة في ملعب الحزب الذي يتحكم به المالكي، في مقابل وجود زعماء اقوياء متمسكين بفكرة مقايضة العبادي ذاته باي قبول ممكن لفكرة التكنوقراط التي يدعمها التيار الصدري. كل ذلك بحسب تصور السفير الامريكي الاسبق في العراق يتطلب وجود توافق ايراني – امريكي للوصول الى اصلاحات جزئية يمكن القبول بها مبدئيا للوصول الى الانتخابات اللاحقة.&
في حال دفعت كل من طهران و واشنطن باتجاه تطبيق هذه الصيغة، فحينها ستكون كل الدعوات الخاصة بحل البرلمان و الدعوة للانتخابات المبكرة مجرد امنيات عابرة في مشهد لا يملك فيه الاقوياء خيارا اخر غير الاحتكام الى لغة التنازلات المتبادلة.&
كل ذلك يفضي بالنتيجة الى الاصطدام بجدار المحاصصة القوي الذي بات راسخا في بنية الدولة العراقية الجديدة حيث يضع المستفيدون من هذا النظام البلد بأجمعه امام بدائل شرسة في حال تم المساس بمساحة نفوذهم و تاثيرهم الواسعة. وهو ما يفسر رغبة العبادي في طرح قائمة جديدة يتم فيها تعديل بعض الاسماء التي تم الاعتراض عليها مع الابقاء على فكرة رفد الكابينة بمرشحين مستقلين مع الابقاء على التوازن الهوياتي التقليدي في الرئاسات الثلاث.&
الابقاء على هذا التوازن لازال مسيطرا على حركة الاحداث حيث تشير التسريبات الى ان بدائل رئيس مجلس النواب و نائبيه (في حال الاصرار على اقالتهم) ستكون من داخل منظومة الاحزاب و تحديدا من بين الشخصيات التي مارست الحركة الاحتجاجية في داخل البرلمان وفقا لفكرة رئيس سني و نائبين شيعي و كردي.&
في ظل هذا المشهد هنالك قناعة واسعة في الاوساط العراقية تشير الى ان الخطيئة الكبرى التي يمكن ان يرتكبها البرلمانيون تتمثل في اعادة انتاج نظام المحاصصة عبر اسقاط رئيس للبرلمان سني ليحل محله سني اخر و هكذا مع البقية. خاصة وان ترشيح شخص مثل حاكم الزاملي ( بحسب بعض التسريبات ) قد يفسر على انه ضربة مبيته للمجلس الاسلامي الاعلى. وهو ما يمكن له ان يعقد المشهد السياسي و يعيدنا مجددا الى مأزق المحاصصة و الصراعات الحزبية.&
بالنهاية لا يمكن التهرب من حقيقة ان الاصلاح بات امرا حتميا و مطلبا جماهيريا رغم الخلاف السياسي حول كيفية توظيفه من قبل احزاب السلطة. الاصلاح بالنهاية طريق مليء بالألغام و ليس من السهل السير فيه بدون خسارات على امل ان نصل يوما الى اعادة تصحيح الفكر السياسي للمنظومة الشعبية التي ساهمت من حيث لا تعلم في انتاج هذه التجربة البرلمانية.
&
اكاديمي عراقي&