بين حين وآخر يتسائل البعض عن"محنة المدنيين العراقيين" وأسباب ضعف تأثيرهم في المشهد العراقي العام رغب تواجدهم الظاهر فيه، وعن أسباب تلكؤ أدائهم وعجزهم عن إستقطاب الشارع العراقي الذي ما يزال مأخوذاً بالخطاب الكهنوتي الغيبي التافه لأحزاب الإسلام السياسي، وهي كلها أسئلة مهمة لا بد من الإجابة عنها بوضوح بعد مراقبة المشهد العراق عموماً والمدني تحديداً بعين محايدة ومقاييس موضوعية، بعيداً عن التأثيرات الفئوية والشخصية، لكي تكون أجوبتنا مصيبة لهدفها وتلامس إن لم يكن روح المشكلة فعلى الأقل جزء منها.
طبعاُ مِحن المدنيين العراقيين كثيرة،لكن أهمها وأخطرها هي أنهم مخترقون من أناس أدعياء لا علاقة لهم بالمدنية والليبرالية سواء من قريب أو مِن بعيد! أناس دخلاء باتوا يتصدرون المشهد المدني ويعتبرون لقلة الخيل المدنية الأصيلة من رموزه! أناس من بيئات ومجتمعات لا مدنية ولا تفقه من قيم المدنية شيئاً! أناس شوهوا صورة المدنيين العراقيين بتصرفات وممارسات لا تبدر أحياناً حتى من بعض الإسلاميين! أناس أضعفوا هذا المشهد وجعـلوا أداءه ركيكاً مخجلاً بائساً بل ومثيراً للسخرية! أناس لا يشبهون المدني الشهيد هادي المهدي مثلاً، الذي وإن كنت لا أعـرفه شخصياً ولا أستطيع أن أحكم على أفعـاله، إلا أنني لا أعتقد بأنه كان ليفتخر بإلتقاط صورة مع أبو عزرائيل، أو ليقدم على إرتداء الكفن مع عمـائم الإسلاميين بساحة التحرير، أو ليقـوم بزيارة رجال الدين لينال بركتهم ويشيد بدعمهم للحراك المدني! وهي أفعال وفضائح بحق المدنية وقيمها، فعلها من يدعـون المدنية ويمثلونها هذه الأيام، لأنه لو كان قد فعلها أو لديه إستعداد لفعلها لما قتل وبقيت لأمثال هؤلاء الأدعياء!
مِحنة المدنيين العراقيين هي في عدم إمتلاكهم لمشروع واضح المعالم له أهداف محددة تعبر عن طبيعته، بل هو ضحية لإجتهادات شخصية من هنا وهناك، غالبيتها تفتقر الى نضج الوعي ووضوح الرؤية.
مِحنة المدنيين العراقيين هي في عدم إمتلاكهم لإمتداد وإرث ثقافي يقوي حراكهم، فهم مقطوعي الصلة مع إرثهم المدني الفقير أصلاً، والذي تعرض لنكبات كثيرة ومتواصلة بسبب إنقـلابات العسكر والأحزاب الشمولية وبروباغنداها التي لم تترك مساحة لرواد الحركة المدنية في العراق للتحرك بحرية، ولإنحراف بعض من هؤلاء الرواد أنفسهم عن مباديء المدنية بوضع يدهم مع الانقلابيين، ليصبحوا دون أن يشعروا جزئاً من المؤامرة على هذه الحركة وممن ساهموا في تخريبها!
مِحنة المدنيين العراقيين هي في عدم إمتلاكهم لقاعدة مجتمعية كبيرة ومتماسكة لكي تدعم مشروعهم الغير موجود أصلاً، لأن الطبقة البرجوازية والمتوسطة التي تمثل أساس المجتمع المدني بدأت تتلاشى بالعراق، سواء كعدد أو كقيمة، إما بهجرتها الى خارج العراق أو بتصفيتها داخله، أو بتحول ما بقي منها في الداخل والخارج الى طبقة متدينة بتدين ظاهري مشوه.
مِحنة المدنيين العراقيين هي أن جالياتهم بالخارج أشد بوساً من مجتمع الداخل بتشرذمها وسلبيتها وجهالتها ونكوص أفكارها بإتجاه التأسلم، رغم أنها تعيش في مجتمعات مدنية! في الوقت الذي كان عليها أن تؤسس وتقود حركة تغيير مدنية حقيقية فاعلة تدعم الداخل وتقوي شوكته بوجه أحزاب الفساد ومليشيات الجريمة التي تستبيحه، لأن مَن يَعيش تجهيلاً ممنهجاً مُنظماً شامِلاً لكل مَرافق الدولة والحياة كما يحدث بالعراق، ليسَ كمن يَعيش في أرقى دول العالم وأكثرها تحَضراً وتمَدناً وإحتراماً لحياة الإنسان وحقوقه، لكنه يَختار بكامل وعيه وإرادته أن يكون مُتخلفاً جاهلاً وتابعاً ذليلاً لسَدنة الوَهم والخرافة بالداخل والخارج. فإذا كان للأول بعض مِن عُذر فلا عُذر للثاني، وهو أسوء مِن الأول بكثير. فما أكثر أولئك الذين كانوا في العراق أسوياء ومُتمدنين، لكنهم تحولوا في الخارج الى بهلوانية وموامنة ولطامة يعيشون كالروزخونية ويرددون كلامهم الفارغ كالببغاوات.
هذه بعض مِحَن المدنيين العراقيين التي لا حل لها حالياً، لأن حلها مرتبط بعموم الوضع العراقي الذي لا حل له في المدى المنظور، والقائمة تطول........
&
&