&ذهب جمع من العلماء المتأخرين إلى أن النسخ الوارد في كتاب الله تعالى لا يجب الأخذ به إلا في حالات خاصة باعتبار أن هذا الاتجاه يقلل من شأن القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إضافة إلى عدم وجود الاختلاف في آياته، فإذا شاء صنف آخر من العلماء أن يجعلوا فيه وجهاً للنسخ فهذا لا يتناسب مع الرأي السائد لدى الصنف الأول القاضي بتعارض الآيات مع بعضها في حالة النسخ، وأنت خبير بأن هذا الكلام الدخيل على العلم لا يتناسب مع العلل الكونية التي أوجدها الله تعالى وجعل القرآن الكريم مكملاً للحديث المشاهد فيما بينها، سواء أكان ذلك الحديث مفهوماً كما هو الحال لدى العقلاء أو أن هناك طرقاً أخرى تكفل للفهم الساذج أسراراً جديدة يمكن الوصول إلى معرفتها وبالتالي تكون الدلائل قريبة على رسم الصور البيانية لجميع ما في الكون من تلازم يشير بلسان حاله على أنه آية من آيات الله تعالى، وأنى للإنسان أن يجد ذلك الوضوح إذا كان بعيداً عن تدبر آيات الكون التي يمر بها في كل موقف من مواقف حياته، وهذا التلازم الفعلي يضعنا وجهاً لوجه أمام قوله تعالى: (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) يوسف 105. ولا يخفى على ذوي البصائر ما في الآية من تكليف مبطن بأسلوب تقريعي لكل من يعرض عن التفكر في خلق الله تعالى وإن كان هذا البيان لا يخرج عن مفهوم العلم الذي هو أعظم أنواع العبادات المفروضة على الإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى ما يطرأ عليه من وصف لاحق، ولذلك أظهر الحق سبحانه نتيجة هذا الفعل في قوله: (أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) الأنبياء 30.
وعند التأمل أكثر في آيات الكون يمكن أن نصل إلى ثوابت علمية لا يحسب الإنسان حسابها إلا من خلال ما يحصل عليه من نظائر لتلك الثوابت، وهذا السبق العلمي لا يتحقق إلا عن طريق العناية الإلهية التي بين الله تعالى مقتضياتها في متفرقات كتابه المجيد، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في قوله تعالى: (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين) المائدة 31. وهذا يدل على أن العناية التي تقدم ذكرها لا تفارق الإنسان وإن كان بعيداً عن العناوين الإيمانية العريضة التي يخصصها بعض أهل العلم لفئة معينة من الناس دون غيرهم ظناً منهم أن تلك العناية لا تتناسب مع من كان بعيداً عن النهج المستقيم الذي يتردد بين أوساطهم بطريقة مجانبة للحق الذي نستشف تفاصيل معطياته من خلال البيان الشامل المقرر في كتاب الله تعالى وما ذكر في الآية ما هو إلا أمر مكرر وظاهرة تعيد نفسها في كل مرحلة من مراحل الحياة الدنيا التي تعبّد الطريق لمن أراد أن يكتشف بعضاً من الآيات التي أودعها الله سبحانه في هذا الكون، وهذا ما أشرنا إليه في آية سورة يوسف التي أحكمت التشابه الوارد في آية سورة المائدة، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) يونس 24.
من هنا نعلم أن الآيات الكونية ينسخ بعضها بعضاً دون أن يحدث ذلك النسخ إلغاءً تاماً لما أفل منها، وهذا ما يشاهده الإنسان أمامه في جميع فترات حياته أو ما ينقل إليه من أخبار سالفة، ولو سلمنا جدلاً بخلاف ذلك لظل الإنسان معتمداً على كل ما يستجد لديه من محدثات وهذا لا يتقارب مع الواقع المعاش، ويمكن
معرفة هذا المعنى من خلال الانتقال الجزئي المحافظ على المفهوم الأول الذي تتفرع عليه جميع المصاديق المستحدثة، وسيمر عليك تفصيل ذلك بصورة أكثر جلاءً في المساحة المخصصة لتفسير آيات البحث:
تفسير آيات البحث:
قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير... ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير... أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) البقرة 106- 108. للسياق القرآني أثر كبير في فهم المعنى حيث إن البيان المراد من آيات البحث في هذا الموضع لا يقرر النسخ الذي هو على بابه أي نسخ الأحكام بأحكام أخرى أو إزالتها والإتيان بغيرها، وذلك لأن تذييل الآية 106. من موضوع البحث بقوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) لا يتناسب مع نسخ الأحكام إضافة إلى استمرار السياق بتبيان معنى الملك الذي صدره بالاستفهام التقريري، كل هذا فيه دلالة واضحة على أن المراد ههنا هو نسخ الآيات الكونية وما يتفرع عليها من مصاديق الآيات التي جاء بها الأنبياء وهذا هو الأصل في تقرير الهداية الملزمة التي هي أهم أهداف القرآن الكريم، أما نسخ الآيات القرآنية بآيات أخرى أو تبديلها وإنسائها فهذا يطلب من موضع آخر، كما في قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) النحل 101. وكما ترى فإن الاستدلال في آية سورة النحل على ما ذكرنا ليس فيه أدنى ريب وذلك لختامها بلفظ التنزيل دون القدرة كما في أول آيات البحث فتأمل.
وقد ذهب محمد رشيد رضا إلى تقرير هذا المعنى في تفسير المنار وأضاف نقلاً عن شيخه محمد عبده: وأما ذكر القدرة والتقرير بها في الآية الأولى فلا يناسب موضوع الأحكام ونسخها، وإنما يناسب هذا ذكر العلم والحكمة، فلو قال.. ألم تعلم أن الله عليم حكيم.. لكان لنا أن نقول إنه أراد نسخ آيات الأحكام لما اقتضته الحكمة من انتهاء الزمن أو الحال التي كانت فيها تلك الأحكام موافقة للمصلحة، وقد تحيّر العلماء في فهم الإنساء على الوجه الذي ذكروه حتى قال بعضهم إن معنى (ننسها) نتركها على ما هي عليه من غير نسخ وأنت ترى إن هذا وإن صح لغة لا يلتئم مع تفسيرهم إذ لا معنى للإتيان بخير منها مع تركها على حالها غير منسوخة.
وأضاف نقلاً عن أستاذه: والمعنى الصحيح الذي يلتئم مع السياق إلى آخره إن الآية هنا هي ما يؤيد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم أي (ما ننسخ من آية) نقيمها دليلاً على نبوة نبي من الأنبياء أي نزيلها ونترك تأييد نبي آخر بها، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها، فإننا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرف في الملك نأتي بخير منها في قوة الإقناع وإثبات النبوة ومثلها في ذلك، ومن كان هذا شأنه في قدرته وسعة ملكه فلا يتقيد بأية خصوصية يمنحها جميع أنبيائه.
والآية في أصل اللغة هي الدليل والحجة والعلامة على صحة الشيء، وسميت جمل القرآن آيات لإنها بإعجازها حجج على صدق النبي ودلائل على أنه مؤيد فيها بالوحي من الله عز وجل من قبيل تسمية الخاص باسم العام. انتهى.. ومن أراد المزيد فليراجع تفسير المنار.
&
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
التعليقات