&
نحن على موعد يا فالح.& أنت حدَّدت الموعد يا فالح بن عبد الجبار.& اتصلتَ بي لتخبرني انك قررت تغيير مسار رحتلك الى بودابست ، حيث كنتَ مدعواً للحديث في ندوة ، كي تتوقف في لندن 48 ساعة نلتقي خلالها في حانتك المفضلة لأنها تجيد إعداد طبق السمك والبطاطا الانكليزي الذي تحبه.& آخ من السفر والعمل.& ألم يحذرك الطبيب قائلا يجب ان تعطي نفسك استراحة من عناء السفر والعمل الفكري ، وإلا؟& في النهاية لم يستطع جسمك اللحاق بفكرك ورفع الراية البيضاء مستسلماً في بيروت قبل ساعات على موعدنا.&&
&
خطيئتك يا فالح أو فضيلتك بالأحرى انك كنتَ في تململ دائم لا تعرف الهدوء ولا تستقر على حال.& قضيتَ شهر عسلك مقاتلا شاباً في صفوف المقاومة الفلسطينية على خطوط الجبهة في جنوب لبنان.& وبعد عودتك الى العراق أسهمت في التحضيرات لنشر جريدة الحزب الشيوعي "طريق الشعب" اوائل السبعينات ، وعملنا في غرفة واحدة لتحرير صفحة شؤون دولية مع زملاء آخرين. واعرف انك كنتَ احياناً تكتب افتتاحية الجريدة بمفردك.& وبقيتَ في "طريق الشعب" الى ان أجبرتك الملاحقات البوليسية على الرحيل الى بيروت.& وفي العاصمة اللبنانية التي احتضت مئات العراقيين الناجين من الملاحقة التقينا مجدداً ولكن لبضعة أشهر فقط قبل ان تشد الرحال مرة اخرى ، الى براغ.& وفي العاصمة التشيكوسلوفاكية وقتذاك التقينا مجدداً ، هذه المرة في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية".& ولكنك كنتَ في تململ دائم كما هو ديدنك.& واخترتَ الصحراء الغربية على هدوء براغ وجمالها الناعس.& وحين عدتَ من الصحراء الغربية فضلت القصف وشوارع بيروت المحفوفة بالسيارات المفخخة على أمان براغ وابراجها المتلألئة.& ومن مخاطر التفجيرات في بيروت الى الانخراط في صفوف الأنصار في كردستان.& وبين هذه وتلك أقمت فترة في موسكو لترجمة "رأس مال" ماركس.&
&
ولم نلتق مرة اخرى إلا في لندن.& ولكن رغم افتراق طرقنا وبُعد المسافات بيننا فان صداقة عمرنا ظلت على عنفوانها لم تفقد شيئاً من حميميتها.&&
&
في العاصمة البريطانية وجدتَ يا فالح فرصة لمواصلة الدراسة التي انقطعت عنها بسبب ظروف العراق.& وتكللت دراستك برسالة دكتوراه قال الباحث البريطاني الراحل فريد هاليدي انها تعادل رسالتي دكتوراه على أقل تقدير.& ولم يمر وقت طويل حتى تلقفتك جامعة لندن متروبوليتان للعمل محاضراً فيها.& وأذكر بَرَمك بالتدريس مفضلا البحث النظري المشفوع ببيانات ميدانية.& ومن هنا ولدت فكرة تأسيس معهد دراسات عراقية.& واخترتَ بيروت مقراً للمعهد طالما ان صلة الرحم لم تنقطع مع هذه المدينة المعطاء.& ونال المعهد بفضل إسم مؤسسه سمعة كبيرة في الأوساط الأكاديمية وبين نظيراته من مراكز البحث في المنطقة العربية والغرب.& واسهم المعهد بقسط مشهود في حقل المعرفة بترجمة البعض من أهم الكتب الصادرة في الغرب الى العربية وعقد مؤتمرات عن قضايا الساعة الملتهبة كان يدعو باحثين كباراً للمشاركة فيها بمساهمات قيمة وتنظيم دورات لخريجي اقسام علم الاجتماع في الجامعات العراقية.&&
&
طيلة هذه السنوات كان العراق هاجسك تبحث في بطون الكتب وتستنطق السياسيين والخبراء والبسطاء العراقيين عسى ان تكتشف سر عذابات العراق وأهله التي طالت دون ان تلوح في الأفق نهاية لها.& فأنجزت بحوثاً وكتباً بينها "الحركة الشيعية في العراق" وحررت "آيات الله والصوفيون والايديولوجيون" ، كلاهما بالانكليزية ، و"العمامة والأفندي:& سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الشيعي ، نموذج العراق" ، و"دولة الخلافة ، التقدم الى الماضي (داعش والمجتمع المحلي في العراق) وغيرها الكثير ، وطنك العراق هو اللازمة التي تتكرر فيها بلا منازع.& وما تركته من مشاريع أكثر.& ولكن جسدك المنهك لم يعد يحتمل.
&
كنتَ حين تأتي من بيروت الى لندن لقضاء بضعة ايام مع الأهل والأصدقاء ، تتفقدنا واحداً واحداً تسأل عن احوالنا وتساعد من يحتاج الى مساعدة وتجمعنا في حلقات سمر أنت شمعتها.& وفي زيارتك قبل الأخيرة الى لندن قطعت مسافة طويلة لتأخذني في سفرة الى اوكسفورد حين سمعتَ إني كنتُ أسير الفراش بسبب المرض.& زيارتك القادمة الى لندن هي الأخيرة وفيها ستترجل لتضم الى فرسان الفكر في مقابرها.& لكننا يا فالح ما زلنا على موعدنا.&&
&