من البديهي والمنطقي أن النظام السياسي في أي دولة يسعى لترسيخ مفاهيم الأمن والاستقرار وتحقيق التنمية وحرية الرأي وتوطيد الديمقراطية لمواطنيه، لا بد أن ينطلق منتلك المساحات ـ المؤسسات ـ التي تصنع المقاربة ما بين النظام السياسي الحاكم والمواطنين في زمن الصراعات والانقسامات والفوضى، وتعد هذه المؤسسات امتداداً طبيعياً لتحقيق الدولة المستقرة على جميع الأصعدة، وما يجري في تركيا هذه الفترة هو العكس تماما، ًمن سياسات حزب العدالة والتنمية الهادفة إلى تحويل الدولة من دولة المؤسسات إلى دولة الميليشيات، بعد أن وصلت عمر الجمهورية التركية إلى حدود مئة عام والتي تعرف منذ تشييدها بأنها دولة المؤسسات وعلى الأخص المؤسسة العسكرية ذائعة الصيت، التي قامت بخمس انقلابات في تركيا منذ تأسيس الجمهورية في عام 1923 للحفاظ على مسار العلماني للدولة التركية، ولأول مرة في تاريخ الجمهورية التركية يتم شل تأثير هذه المؤسسة العسكرية بهذا الشكل بعد أن كانت الجهة التي تحافظ على مسار السياسة التركية المرتسمة لها (العلمانية)، وفي وقت الحاضر يتجه النظام السياسي الحاكم والمتمثل في حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان نحو مسار يستهدف من خلاله سلطة هذه المؤسسةوتقويض عملها وإضعافها من خلال خلق كيانات موازية ومناوئة للاستحواذ على السلطة واحتكارها لأمد طويل، بعد أن قام بإصلاحات في هذه المؤسسة بشكل واسع في ظل النظام الرئاسي، وفي هذا الصدد تفيد مجريات الأحداث في الداخل التركي بأن أردوغان لم يكن قادراً في السيطرة على المؤسسة العسكرية من خلال إعادة الهيكلة، وهذا ما تثبتهالاعتقالات التي تحدث بشكل متكرر لعناصر الجيش بحجة التورط في الانقلاب تموز 2016 أو الانتماء لحركة فتح الله غولن وتصفية الضباط المعارضين لسياسة الحزب والاعتقالات المستمرة حتى الأن بحق أفراد الجيش، ويتجلى ذلك بشكل واضح من خلال القانون الذي صدر مؤخراً وأثار جدلاً واسعاً، ألا وهو قانون حراس الليل، ويهدف إلى تسليح الموالين لحزب العدالة والتنمية لمعاونة أفراد الشرطة والجيش لحفظ الأمن، ويتألف من 18 مادة قانونية وافقت اللجنة المحلية للبرلمان على تسع مواد فقط، لتزداد حالة السخط والامتعاضوالاحباط حيال تلك القرارات والقوانين في المجتمع التركي والأوساط السياسية المعارضة لحزب العدالة والتنمية.
فمنذ وصول أردوغان وحزبه إلى السلطة في عام 2002 بداية كان رئيساً للوزراء ومن ثم رئيس الجمهورية في 2014 وهو يرغب أن يكون المؤسس الثاني للدولة التركية بعد مصطفى كمال أتاتورك من خلال حكر طاقة حكمه الاقتصادية والسياسية على أعلى المستويات في تركيا على ديناميكية تأسيس النسخة الثانية من الجمهورية، بتعديل البنيةالسياسية والاقتصادية للجمهورية التي أرسيت في عام 1923، لتضمين نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة لصالحه والبقاء في الحكم بعد أن تراجع شعبيته بنسبة كبيرة، ووفقاً لاستطلاعات الرأي الرسمية والتي تجري بشكل دوري في تركيا تؤكد على فقدان أردوغان نسبة كبيرة من قاعدته الشعبية وإدراكه جيداً بأنه لن يستمر في سدة الحكم، بعد أن لعبت المسرحية (الانقلاب الفاشل) التي قام بتأليفها حزب العدالة والتنمية في تموز 2016 دوراًرئيسياً في تهيئة الظروف ومهد الطريق لزيادة سطوة وهيمنة هذا الحزب، استطاع تعديل الدستور التركي في عام 2017 بتحويل النظام السياسي من البرلماني إلى الرئاسي،والذي بدوره أدى إلى توسع رقعة الهيمنة على المؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية،وإفساح المجال لشركات الأمن الخاصة ودعمها مثل “سادات” وليتوسع دائرة هذه السطوة السياسة إلى القيام بتسهيلات قانونية للانتشار ظاهرة التسلح مثل منح تراخيص السلاح للموالين وأفراد الحزب، وتكتمل مساحة هذه الدائرة اليوم بقانون حراس الليل، فيبدو أن حزب الحاكم ستمسك بالسلطة ولن يتخلى عنها، وقانون حراس الليل خير دليل على ذلك، حيث يشبه هذا القانون في حال تم تطبيقه بالوحدات السرية التابعة لأدولف هتلر في ألمانياوالتي تعرف بالسرب الحماية أو وحدات وقائية ( شوتزشتافل Schutzstaffel ).
وفي سياق المساعي من هذا القانون، يهدف إلى القضاء على الهوامش الداخلية الذي يفسح المجال للوقوف في وجه محاولات الحكومة المستميتة لتوطيد هيمنته على المجتمع، وفرض واقع مختلف كلياً عن الديناميكية السياسية والشرعية السياسية التي تعودت عليها المجتمع التركي وبمختلف توجهاتهم الحزبية، وتعود خلفية هذا القانون إلى فقدان أردوغان الثقة بالناخب التركي في الفترة الأخيرة، وبالتالي استحالة بقاءه في الحكم بالطرق الانتخابية القانونية والشرعية في ظل تقلص عدد أعضاء حزبه نتيجة معارضتهم لسياسة أردوغان وخسارة البلديات الكبرى أثرت بشكل كبير على الحزب، وأيضاً يعتبر هذا القانون بمثابة خطوة نحو الانتقام بشكل من المعارضين والخصوم له من خلال التدخل في النشاطات السياسية للأحزاب المعارضة وتقييدها لمنع حدوث صدى جماهيرية مضادة له، وضمان سيرورة حكمه من خلال هذه الميليشيات التي ستكون قوة صد لأي محاولة انقلابية.
وبناءً على ذلك ستكون تداعيات هذا القانون على الداخل التركي سيئة للغاية من تقييد للحريات والتحكم في الشؤون العامة وإحداث انقسام شاقولي داخل المجتمع، لذا سيتجه الوضع الداخلي نحو مزيد من التدهور في جميع النواحي ويكون قابلاً للانفجار في وجه النخب الحاكمة وحزب العدالة والتنمية.
التعليقات