تنطلق عهدة حكومة الياس الفخفاخ وسط صعوبة جمة ليس آخر فيروس كورونا وتأثيراته المحتملة على القطاع السياحي أحد أعمدة الاقتصاد التونسي. هذه الإكراهات قد تدفع الفخفاخ بأن يصير بهلوان حبال يجيد المشي بين ألغام الإصلاحات الاقتصادية والطلبات الاجتماعية والتوازنات السياسية دون ان يفقده ذلك توازنه لأن خلاف لك يعني، بكل بساطة، خُروجه السريع من باب الحكومة الصغير وهو ما لا يتمناه كما أعلن ذلك في موكب تسليم الحكومة من سلفه يوسف الشاهد.

لا أحد ينكر ما ابداه الياس الفخفاخ وفريقه الحكومي من إرادةٍ في الخروج بالبلاد من أزمتها الخانقة والهيكلية وهي إرادة عكستها وثيقة تعاقدية شاملة اعتبِرت إعلان نوايا أكثر من برنامج عمل عملي، فالبلاد تحتاج عاجلا الى حلول آنية تُعالج تدهور القدرة الشرائية للمواطن، وآجلا هي مدعوة لبدء إصلاحاتٍ كبرى تُؤسس لتغيير منوال التنمية القائِم على الاقتصاد الريعي و على السياحة الشاطئية في مدن الساحل الى جانب بعض الأنشطة الصناعية و خاصة المناطق الحرة.

ربما تكون هذه القطاعات قد حققت نسب نمو مهمة و التقليص في نسب البطالة و جلب الإستثمارات الوطنية و الأجنبية سواء عقب بناء الدولة الوطنية في الستينات و السبعينات أو خلال التسعينات وبداية الألفية الثانية لكنها و مع التغييرات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية بتونس أثبت منوال التنمية القديم محدوديته في التنمية الشاملة و العادلة ، بل ان البلاد أصبحت جنة للفساد و المحسوبية و التهميش و التفقير الممنهج للطبقات الوسطى. يقول الدكتور خالد شوكات في كتابه"المقدمة الديموقراطية ،الأسس الإصلاحية للمسار الثوري في تونس"،"مثلما بنيت الجمهورية الأولى عندما اهتدى مؤسسوها لمنهج التخطيط الخماسي لإقامة عمرانها، فإن مسار الجمهورية الثانية قد استهل باستئناف المؤسسين لمنهج التخطيط الخماسي أيضا، و لكن بهدف إنتاج منوال تنموي جديد نابع من روح الثورة و الجمهورية الثانية و محقق للأهداف المرجوة منهما، بديلا عن المنوال التنموي القديم الذي استنفذ غاياته و تلاشت جدواه و حلت ساعة مراجعته".

يشخص تقرير صادر عن مجموعة البنك الدولية سنة 2014، بعنوان "الثورة غير المكتملة"، مكامن أخطاء السياسات الاقتصادية السابقة لتونس بالقول "إن الكثير من السياسات و النظم التي تم اعتمادها في البداية لتوجيه و مرافقة التنمية الاقتصادية للبلاد من خلال جذب الإستثمارات و تعزيز النمو الاقتصادي و التوظيف و الحد من التفاوت الجهوي أصبحت مشوهة باطراد لنمو الأسواق و أنشأت حواجز غير مقصودة امام المنافسة" يضيف التقرير بأن السياسة الصناعية و قوانين و مؤسسات أسواق العمل قد تحيزت عن غير قصد الى الأنشطة ذات القيمة المضافة المنخفضة و لصالح المناطق الساحلية".

سيكون رئيس الحكومة الياس الفخفاخ إذن، إذا ما تم الاعتماد على الدراسات والتوصيات الصادرة عن منظمات ومراكز بحوث وطنية ودولية، امام إجبارية تغيير شامل و كلي لمنوال التنمية لتجاوز الحلول الترقيعية و الحينية التي سلكها اسلافه عن طواعية او مكرهين، لأن دخول مغامرة الإصلاحات الكبرى و الشاملة و الحقيقية تعني كما قلنا في البداية ، المشي وسط حقل ألغام التوازنات السياسية التي تبدو للوهلة الأولى ليست في صالحه.

خير إلياس الفخفاخ تكوين حزام سياسي هش تتقاذفه الصراعات الإيديولوجية والمقارباته الاقتصادية المتضاربة. ففي موضوع إصلاح المؤسسات العمومية مثلا، هناك من يدعو في التحالف الحكومي للفخفاخ الى بيع المؤسسات العمومية التنافسية و أحزاب أخرى في الحزام نفسه، ترى في ذلك خطا احمر. كيف سيتعامل الفخفاخ وسط هذه التناقضات صلب فريقه الحكومي في حين ان الحكمة و العقل السياسي السوي يؤكد ان الإنسجام الحكومي قرارا وتصورا و تحرّكا ضرورة لنجاح اية حكومة؟ ثم كيف سيتصرف رئيس الحكومة امام معارضة شرسة تُمثّل قرابة ربع البرلمان التونسي اختارها هو نفسه بدعوى ان الأنظمة الديموقراطية تتشكّل من سلطةٍ و مُعارضة؟

سبق دخول الياس الفخفاخ قصر الحكومة بالقصبة،انقادات واسعة من حلفاءه قبل معارضيه. فالرجل فشل في الانتخابات الرئاسية و لم يتمكن حزبه التكتل ذو التوجهات الإشتراكية الاجتماعية من الحصول على أي مقعد سواء من انتخابات الفين و أربعة عشر او الفين و تسعة عشر غير ان رئيس الدولة قيس سعيد اختاره رغما عن رغبة اغلب الأحزاب، حتى ان مرور حكومته امام البرلمان اصبح ينظر اليها و بتصريح حليفه الرئيسي حزب النهضة، على انه تصويت الضرورة لا الإقتناع، و يقصد بذلك ضرورة التخلص من رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد الذي شن حربا على الجميع قبل المغادرة.

لن تكون اذن مُهمة الياس الفخفاخ خلال المائة يوم الأولى سهلة،لأنه و بخلاف رئيس الجمهورية لن يجد من يدافع عليه بحماسة، لذلك هو مطالب و في ظرف وجيز بأن يبرهن:
-بأن حربه على الفساد حقيقية و ليست بغاية تصفية الخصوم السياسيين كما فعل سلفه.
-ان ينطلق في الإصلاحات الكبرى بالشراكة مع كل الأحزاب و المنظمات الكبرى دون اقصاء.
-ان يجد حلولا عاجلة لغلاء المعيشة وارتفاع الجريمة و العنف و ان يعيد تشغيل المصعد الإجتماعي
- ان يُحيّد الإدارة و القضاء عن الفضاء الحزبي و ان يستقيل من منصبه و لا يستغله في حال أراد بعث حزب سياسي.
-ان يصلح الإعلام بدل استغلاله في الدعاية له كما فعل يوسف الشاهد.
هذه الإجراءات تتطلب كما اكد ذلك الياس فخفاخ نفسه، "لوجيسيال" أي تطبيقات حديثة و هي تطبيقات لا تباع و تشترى في أسواق التكنولوجيات الحديثة و انما تُبنى متى توفرت إرادة صادقة في العمل و الإصلاح و إعادة الأمل للنُخبة التي هجرت الفضاء العام. يقول الشاعر التونسي منور صمادح "شيئان في بلدي قد خيبا أملي *** الصدق في القول والإخلاص في العمل". اما نحن فنتمنى ان لا يخيب أملنا.