منذ البيان الأول لانقلاب أو ثورة 14 تموز 1958 كما يشتهي البعض تسميتها، والخطاب السياسي العراقي يتوقد ناراً وكأنه يخرج من أفران صهر الحديد مبتدءاً بحرف السين العاري تمامًا، لا من معطف ولا ساتر ولا حتى من ورقة تين تستر عوراته التي لا تظهر إلا بعد ذهاب النشوة والتحشيشة بعد سنين، حيث تظهر العورات والعاهات بعد أشهر قليلة لا تتجاوز السنة بعد كل انقلاب جمهوري وتلاوة بيانه الأول الذي يحرق الأخضر واليابس بالحماسة وأناشيدها اللاهبة التي تبدأ باسم الرب وخاصة النشيد الناري (الله أكبر فوق كيد المعتدي) الذي تمّ إنتاجه وتداوله أيام العدوان الثلاثي على مصر 1956م، حتى اهتدت إلينا مشكورة الولايات المتحدة، وأسقطت هيكل نظام حرف السين العاري لكي تفتح الآفاق أمام عملية تفعيل لصدى ذلك الحرف الذي خدر شعوبنا لحقبة من الآمال والتطلعات التي تآكلت وسط لهيب نيران الحروب الداخلية منها والخارجية، حتى اطلينا على جمهورية ديمقراطية برلمانية أساسها صناديق الاقتراع ومرتكزاتها شيخ القبيلة ورجل الدين وبقال السياسة، في بلد مصاب بالأمية الأبجدية والحضارية منذ تأسست مملكته وحتى بدأت دودة الأرضة السياسية المتدينة تنخر فيه فساداً وتشرذماً حتى غدى كالدويلات الأندلسية معاد تدويرها بالميليشيات ومافيات السلب والنهب باسم الدين تارةً وباسم الرب تارةً أخرى!

ولكي لا ننسى البدايات في هذا الحرف الخارج من نشوة السكر مترّنحاً بين أروقة قصور الحكام، دعونا نتذكر جميعاً خطابات الزعيم عبد الكريم النّارية، التي كانت توقد فينا نيران الثورة وتحلقنا في فضاءات خيال جمهورية أفلاطون الخالدة، وإذ بنا نتهاوى بعد سنين قصار لندرك أن اللعبة بأكملها لم تتجاوز صراعات السلطة فيما حول الزعيم، وقد يكون الرجل منها برّاء، كما قِيل من المناوئين له والمقربين في وصفه إنصافاً بعد حين، لصفاء سريرته وبراءته وربما عقليته العسكرية المهنية، وقبل أن يصحو حرف السين من سكرته جاؤوه زوّار الفجر من رفاق العقيدة والسلاح أتباع ميشيل عفلق، لكي ينهوا الزعيم وسينه، ويعتلوا عرش الجماجم والحبال المزينة بأفواج من حرف السين المطعم بالشعارات الخلابة وأحلام وطن يمتد على الأفق جناحاً، حتى تمادى فرسانه شمالاً بأنفالهم وجنوباً بمقابرهم الجماعية، لتستمر أسراب السين وسوف تخدر الملايين بوطن الوحدة والحرية والاشتراكية الذي يمتد من ضفاف الخليج وحتى سواحل المحيط، بشعارات خلابة فعلت فعلها في تخدير الشعب وإحباطه، حتى فاق بصعقة الاحتلال الذي أستورد لإسقاط نظام الخطب النارية وأسراب السين المخدرة، واستبدالها بأجيال معدلة ومحدثة منها، ولكن هذه المرة باستخدام الدين والمذهب اللذان سيحققان الجنة الموعودة لملايين تهرول يومياً وراء قائد للضرورة أو شيخ للعشيرة أو رجل دين يتاجر به.

ترى إلى متى سيبقى حرف السين عارياً وسط هذا البركان المتوقد بدماء الشهداء من أجل غدٍّ مشرق ومستقبل زاهر؟

[email protected]